أخبار اليوم - "أنا خايف يا ستي..."، تنهال هذه العبارات على صباح عبيد (62 عاما) من أحفادها الأطفال الذين يقيمون معها في خيمة نزوح قسري وسط مدينة غزة، بينما يقض الاحتلال مضاجعهم بتدمير ما تبقى من مبان وقصف خيام نازحين بغارات جوية مكثفة.
وتعيش المسنة صباح ومعها العائلات والنازحون فصلا جديدا من المعاناة، مع إمعان (إسرائيل) بتنفيذ مخطط احتلال المدينة المدمرة بشكل شبه كامل، في خضم حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ووسط أحفادها الأطفال الـ25، تضرب صباح كفا بكف بينما تتعالى أصوات القصف الإسرائيلي الجوي والمدفعي، ويصدر الاحتلال أوامر إخلاء قسري جماعي للمدنيين من مدينة غزة، في وقت ينهشهم الفقد والتشريد وانعدام المأوى والتجويع والتعطيش.
"خبط ورقع ليل نهار"، بلهجة عامية تلخص صباح لـ "فلسطين أون لاين" واقع الحال الذي يعيشه الغزيون، من قصف وتدمير ممنهج، لم تخبو نيرانه للشهر الـ24 تواليا.
ولا تجد المسنة مأمنا لها ولعائلتها حتى في خيمة النزوح التي تقيمها في حرم عيادة حكومية بحي الرمال، بعد أن زج بها الاحتلال في محطات نزوح متكرر منذ أن دمر بيتها بحي الشجاعية شرق غزة في بداية حرب الإبادة.
"بيخبطوا حوالينا طول الليل واحنا مرعوبين... كل ما تخبط هواية (قصف) بيجروا علي أحفادي... يا ستي... يا ستي"، تروي مأساة يومية نتيجة القصف الإسرائيلي.
ويسعى الاحتلال إلى إجبار الأهالي على النزوح إلى "مواصي خانيونس" جنوب القطاع التي يزعم أنها منطقة "إنسانية آمنة"، لكنه يواصل ارتكاب المجازر ضد المدنيين فيها، قتلا وحرقا.
ولا تزال معاناة محطات النزوح القسري السابقة إلى جنوب قطاع غزة ماثلة أمام "أم نشأت"، ففي المرة الأولى نزحت بداية إلى حي الزيتون جنوب شرق غزة، ومنه أجبرهم الاحتلال على النزوح إلى جنوب القطاع، في رحلة تكبدت المسنة أعباءها سيرا على قدميها اللتين لا تقويان على حملها.
وهناك تحملت مشاق النزوح تحت النار بين خانيونس ودير البلح وغيرهما، قبل أن تعود إلى حي الشجاعية مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى حيز التنفيذ أواخر يناير/كانون ثان.
تقول: رضينا بالعودة إلى الأنقاض، وبدأنا بالتخييم في منطقة سكننا، لكننا تعرضنا مجددا للقصف وأجبرنا ذلك على النزوح مجددا من حي الشجاعية إلى حي الرمال.
وفي 18 مارس/آذار، انقلب رئيس حكومة الاحتلال المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بنيامين نتنياهو على اتفاق وقف إطلاق النار واستأنف حرب الإبادة الجماعية وأغلق المعابر المؤدية إلى القطاع ومنع دخول المساعدات الإنسانية، وهو ما أدى إلى مجاعة أعلنتها الأمم المتحدة.
ويواصل جيش الاحتلال استهداف مدينة غزة وأحيائها السكنية المدنية، ضمن سياسات التدمير الممنهج والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري التي يواصل تنفيذها منذ بدء عدوانه البري على المدينة في 11 أغسطس/آب.
ووفق بيان للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة السبت، دمر الاحتلال أكثر من 1,600 برج وبناية سكنية مدنية متعددة الطوابق تدميرا كاملا، وأكثر من 2,000 برج وبناية سكنية تدميرا بليغا، إلى جانب تدميره أكثر من 13,000 خيمة تؤوي النازحين.
ومنذ مطلع سبتمبر/أيلول، نسف الاحتلال ودمر 70 برجا وبناية سكنية بشكل كامل، و120 برجا وبناية سكنية تدميرا بليغا، إضافة إلى أكثر من 3,500 خيمة.
وكانت هذه الأبراج والعمارات السكنية المستهدفة تضم أكثر من 10,000 وحدة سكنية يقطنها ما يزيد عن 50,000 نسمة، فيما كانت الخيام التي استهدفها العدوان تؤوي أكثر من 52,000 نازح.
وبذلك يكون الاحتلال قد دمّر مساكن وخياما كانت تحتضن أكثر من 100,000 نسمة، ما أدى إلى نزوح قسري –مع جرائم الإخلاء القسري- يفوق 350,000 مواطن من الأحياء الشرقية لمدينة غزة نحو وسط المدينة وغربها، في مشهد يعكس بوضوح تعمد ارتكاب جرائم حرب من خلال سياسة التطهير العرقي والإبادة الجماعية الممنهجة، بحسب البيان.
تهديد جديد
تنعكس هذه السياسة الاحتلالية الموصوفة دوليا بالإبادة الجماعية على صباح وعائلتها، التي لم يكتف الاحتلال بتدمير منزلها وقتل أفراد منها وتشريدها مرارا، بل يهددها مجددا بآلة حرب مدمرة.
ولم تجف دموع "أم نشأت" بعد، على استشهاد ابنها الذي حرمه الاحتلال من رؤية طفله المولود حديثا، وقد شملت معاناتها أشكالا من "العذاب" -كما تصفها- تفوق قدرتها على التحمل.
ولا تزال الصرخة التي أطلقتها بعد معرفتها بنبأ استشهاد ابنها في فبراير/شباط 2024 تتردد في أذنيها، وتحرق قلبها على فلذة كبدها وعلى أطفاله الثلاثة الذين باتوا بلا أب.
وعن تفاصيل استشهاده، تقول: كان يعمل في شركة قرب مجمع الشفاء الطبي، وحاصره الاحتلال وقناصوه ومن معه واستهدفهم.
وتزامنا مع انعقاد قمة عربية إسلامية في العاصمة القطرية الدوحة اليوم، تتساءل: "لامتى الدول العربية بدها تضل ساكتة على وضعنا هيك... مش حرام عليهم؟"، مطالبة إياهم بالنظر إلى أهالي غزة "بعين الرحمة".
ورغم قسوة الواقع ومسعى الاحتلال إلى إبادة المدنيين بالقتل أو إحالة الحياة إلى مستحيل، فإن صباح تؤكد موقفا شعبيا راسخا في غزة: "بنرفض التهجير.. متمسكين بأرضنا وبيتنا".
فلسطين أون لاين