سهم محمد العبادي
في بلادٍ شربت من تعبنا حتى ارتوت، يقف عشرات الآلاف من الخريجين القدامى في طوابير الانتظار، يلوّحون بشهاداتهم التي شابت أطرافها، بعد أن أُغلق باب ديوان الخدمة المدنية، وفُتِح باب الإعلان المفتوح، فاختلط العابرون بالواقفين منذ عشرين عامًا وأكثر. صار خريج الأمس يزاحم من أفنى عمره على رصيف الدور، والذرائع تُلقى كحصى في بئرٍ بلا قاع، لا تُقنع قلبًا ولا تُسكت وجعًا.نحن مع التحديث، نعم، ومع صقل المهارات، لكن ماذا عن الذين أودعوا شبابهم في قاعة الانتظار؟
في الجهة الأخرى تُطوى عقود آلاف الموظفين أو يُدفعون إلى تقاعدٍ مبكر، برواتب بالكاد تبلّ الريق: ثلاثمئة أو أربعمئة دينار، ومعهم قروض تُطاردهم كظلّ ثقيل. رجال في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، في عزّ عطائهم، لا هم قادرون على عمل جديد، ولا على سداد دينٍ قديم. إنّه قتل على قيد الحياة، إعدام بارد لجيلٍ كامل من أبناء هذا التراب.
وأمام هذا الخراب، تُقصى الكفاءات وتُدفن الخبرات، ليس لعجزٍ أو قصور، بل لأن معيار الولاء الضيق والمحسوبية صار سيّد الموقف. الدولة التي ترفع شعار العدالة وتكافؤ الفرص نهارًا، هي ذاتها التي تتنقّل بأسمائها المحسوبة من منصبٍ إلى آخر، كأن المناصب ميراث عائلي. لا يمكث أحدهم إلا أيّامًا معدودة، ثم يُعاد تدويره في كرسي جديد، فيما يبقى الأكفاء على الأرصفة، يطاردهم الغبار والخذلان.
أهذا هو الأردن الذي وعدتمونا به؟ أردن الأوائل والكرامة؟ لقد صار الأردنيون طوابير من الصبر، ينتظرون ساعة تشييعهم وموعد رحيلهم، وكأن الحياة لغيرهم، والموت نصيبهم كي يحيى هؤلاء الذين يتوارثون الكراسي. وطنٌ يتآكل من الداخل، تُستنزف فيه الأعمار وتُنهب الكرامات، بينما تُدار المناصب والوظائف مثل أوراق لعبة يوزّعها المحاسيب على معارفهم، يدورون بها فيما بينهم، ويتركوا الشعب في النهاية يأكل "الهند" وحده.