سهم محمد العبادي
أحيانًا أشعر أنّ أخطر ما يُصيب الأوطان لا يأتيها من الخارج، بل من كلماتٍ تُكتب بلا وعي، وبلا ضمير، وتُرمى على الناس كما تُرمى الحجارة في العتمة. ما يجري اليوم على الساحة الأردنية ليس إعلامًا، ولا يشبه الإعلام، ولا يمتّ له بصلة. هو شيء آخر… شيء أقرب إلى العبث المقصود، وإلى التشويه المتعمّد، وإلى فبركة تُلبس ثوب “السبق” وهي في حقيقتها خيانة للكلمة.
في الأردن، الكلمة لها مقام. تعلّمنا أن نزنها قبل أن نطلقها، وأن نحترم وقعها لأنها تبقى، ولأنها إمّا أن تبني أو تهدم. الإعلام عندنا كان دائمًا مسؤولية، وكان الكاتب يعرف أن اسمه يوقّع تحت النص، وأن المجتمع كلّه قد يقرأه بعين واحدة. اليوم، ظهرت صفحات على فيسبوك تدّعي الإعلام، بينما هي تمارس أقذر أشكال الإساءة، بلا أسماء حقيقية، بلا مهنية، وبلا خوف من الله أو الناس.
قصص تُفبرك كما تُفصّل النكات الثقيلة: سيدة تكتشف زواج زوجها عليها عبر شاشة مباراة، محامية تتزوّج طليق موكلتها، رجل يطلّق زوجته مقابل “سندويشة”، وآخر يطلّق لأنّه شكّ. أخبار تُساق وكأنّ المجتمع الأردني فقد بوصلته الأخلاقية، وكأنّ هذا البلد الذي بُني على العيب، وعلى الستر، وعلى احترام البيوت، صار فجأة مسرحًا للفضائح اليومية.
الخطر هنا لا يقف عند خبر كاذب، بل يتجاوز ذلك إلى تشويه صورة مجتمع كامل. حين تُكرَّر الأكاذيب، تصبح مألوفة، وحين تُقدَّم للناس على أنها “واقع”، يبدأ البعض بالتصديق، ويبدأ الأذى الحقيقي. هذه ليست حرية تعبير، هذه جريمة. جريمة مكتملة الأركان، لأنّها اختلاق، ولأنّها إساءة، ولأنّها تطال الأردن وأهله وقيمه.
الجهات الرقابية اليوم أمام اختبار حقيقي. الصمت لم يعد خيارًا، والتغاضي صار شراكة غير مباشرة. هذه الصفحات يجب أن تُلاحق، لا بدافع القمع، بل دفاعًا عن المجتمع، عن سمعة الناس، عن الكلمة التي ما زلنا نؤمن أنّ لها شرفًا. فالإعلام الذي نعرفه لا يضحك على وجع الناس، ولا يتاجر بسمعة البيوت، ولا يبني انتشاره على الكذب.
وهنا لا بد من التذكير بما يعرفه الأردنيون عن أنفسهم، وما تجاهلته هذه الصفحات عمدًا، هذا مجتمع تشكّلت قيمه على العائلة، وعلى النخوة، وعلى صون البيوت من القيل والقال. الأردني لم يكن يومًا مفتونًا بالفضائح، ولا متعطّشًا لتشويه سمعته، بل نشأ على الستر، وعلى احترام المرأة والرجل ، وعلى حماية العائلة باعتبارها خطًّا أحمر لا يُمس.
في القرى والبوادي والمدن، ما زالت العادات أقوى من الضجيج، وما زالت التقاليد تحكم السلوك قبل القوانين. النخوة ليست شعارًا عند الأردنيين، بل ممارسة يومية؛ في الجيرة، وفي الوقوف مع المظلوم، وفي حماية السمعة، وفي رفض العبث بالأخلاق. من يعرف هذا المجتمع عن قرب، يدرك أن ما يُنشر عنه اليوم لا يشبهه، ولا يعكسه، ولا يمتّ إلى واقعه بصلة.
الأردن، بقيمه وأهله وعاداته، أقوى من هذه التفاهات، وأصدق من هذه الأكاذيب، وسيبقى مجتمعًا يعرف نفسه، ويعرف حدوده، ويعرف أن الأخلاق ليست مادة للترفيه ولا وقودًا للمشاهدات. من يسيء للأردن بالكلمة، يسيء لنفسه أولًا، لأن هذا البلد، بتاريخ أهله ونخوتهم وحفاظهم على بيوتهم، أكبر من أن يُختصر في خبر مفبرك أو منشور عابر.