أخبار اليوم - تشهد الساحة السياسية الفرنسية حراكاً متسارعاً يعكس حجم التحديات التي تمر بها البلاد في واحدة من أكثر المراحل تعقيداً منذ تولي إيمانويل ماكرون الرئاسة.
تتزامن الأزمات الاقتصادية مع التوترات البرلمانية في مشهد يبدو فيه البحث عن التوازن مهمة شاقة، فيما تتجه الأنظار نحو الحكومة الجديدة وقدرتها على تجاوز الانقسامات التي عطّلت القرار العام وأربكت الأسواق.
وفي هذا السياق، تأتي التحركات الأخيرة في باريس وسط أجواء من القلق المتزايد حيال العجز المالي وتراجع الثقة الشعبية، في وقت تحاول فيه السلطة التنفيذية تجنب مواجهة مفتوحة مع البرلمان المنقسم على نفسه.
وفيما تحاول فرنسا إعادة ترتيب أولوياتها المالية والسياسية، يبدو أن الطريق نحو الاستقرار لا يزال مليئاً بالعقبات، بين ضغوط الشارع، ومطالب الاتحاد الأوروبي، وحسابات القوى الحزبية المتنافرة.
التشكيل الحكومي
كشف رئيس الوزراء الفرنسي سيباستيان لوكورنو، الأحد، عن تشكيلته الحكومية الجديدة في محاولة لضمان موافقة البرلمان على ميزانية عام 2026 ونزع فتيل أزمة سياسية متفاقمة.
اختار لوكورنو، الذي استقال يوم الاثنين الماضي ليتم إعادة تعيينه من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون يوم الجمعة، رولان ليسكور للبقاء في منصب وزير المالية.
لكنه لجأ أيضاً إلى وجوه جديدة في محاولة لكسب تأييد أحزاب المعارضة في البرلمان الفرنسي المنقسم، والتي سيحتاج إلى دعمها لتجاوز التحديات المتوقعة لقيادته. وعُيّن قائد شرطة باريس، لوران نونيز، وزيراً للداخلية.
وقال لوكورنو عبر منصة "إكس": "تم تعيين حكومة مهمتها تقديم ميزانية لفرنسا بحلول نهاية العام. هناك أمر واحد فقط يهم: مصلحة بلدنا".
ومنذ أن أسفرت الانتخابات التشريعية المبكرة العام الماضي عن برلمان منقسم، عيّن ماكرون ثلاثة رؤساء وزراء وخسرهم في ظل كفاحهم لإتمام ميزانية عام 2026 التي من شأنها خفض عجز فرنسا.
ومن المتوقع أن يصل العجز إلى 5.4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، كما أدت مخاوف المستثمرين بشأن قدرة البلاد على خفض هذا العجز إلى اضطراب الأسواق المالية ودفع تكاليف الاقتراض في فرنسا إلى الارتفاع، بحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
أصر لوكورنو على ضرورة خفض العجز في عام 2026، لكنه عرض بعض التنازلات لمحاولة كسب تأييد أحزاب المعارضة، قائلا إنه ينبغي أن يتراوح بين 4.7 بالمئة و5 بالمئة.
ووفق التقرير، فمن خلال تقديم مشروع ميزانية 2026 هذا الأسبوع، فمن المحتمل أن تصبح جاهزة للتنفيذ بحلول نهاية العام بعد اجتياز المفاوضات المطلوبة لمدة 70 يوماً في مجلسي البرلمان الفرنسي.
تحديات جسيمة
يقول خبير العلاقات الدولية والاقتصادية، محمد الخفاجي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
رئيس الوزراء الفرنسي يواجه تحديات جسيمة في سعيه لإقرار الميزانية العامة للبلاد.
تتنوع تلك التحديات ما بين تحديات اقتصادية ومالية عميقة وأخرى سياسية وبرلمانية معقدة، في ظل واقع داخلي يتّسم بالانقسام الحاد وتراجع الثقة الشعبية.
التحدي المالي والاقتصادي يُعد الأبرز أمام الحكومة الجديدة.. فرنسا تواجه عجزاً مالياً متراكماً وديوناً عامة مرتفعة تشكل عبئاً كبيراً على المالية العامة.
وينبه إلى أن العجز المالي بلغ حالياً ضعف الحد الأقصى المسموح به من قبل الاتحاد الأوروبي، مما يضع الحكومة الفرنسية تحت ضغط أوروبي متزايد لتقليص الفجوة المالية وتحقيق الانضباط في الإنفاق العام.
كما يشير إلى أن الدين العام الفرنسي يبلغ نحو 114 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع استمرار ارتفاعه بمعدل يقدّر بخمسة آلاف يورو في الثانية الواحدة.
وفي السياق نفسه، يلفت الخفاجي إلى أن هذه الأزمة المالية تتزامن مع تباطؤ اقتصادي واضح، حيث من المتوقع وفق بعض التقديرات أن يكون نمو الاقتصاد الفرنسي أدنى من متوسط منطقة اليورو خلال العام الجاري، وهو ما يزيد من صعوبة تنفيذ الإصلاحات المطلوبة دون التأثير على النشاط الاقتصادي وسوق العمل.
أما على الصعيد السياسي، يؤكد الخفاجي أن الانقسام البرلماني الحاد يمثل تحدياً لا يقل خطورة عن الجانب الاقتصادي، حيث يفتقر البرلمان الفرنسي الحالي إلى أغلبية مستقرة (..) ويوضح أن هذا الوضع يجعل من إقرار أي إصلاحات مالية أو برامج تقشفية أمراً بالغ الصعوبة، في ظل احتمالية سحب الثقة من الحكومة في أي وقت بتوافق بين اليسار واليمين المتطرف.
ركود
في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة "ليموند الفرنسية" إلى أن "عدم الاستقرار السياسي يتسبب في حالة من الركود في الاقتصاد الفرنسي".
وينبه التقرير إلى أنه "منذ حل الجمعية الوطنية في يونيو 2024، أصبح المستهلكون الفرنسيون مترددين في الإنفاق، كما أصبحت الشركات مترددة في الاستثمار".
وفقًا لتوقعات بنك فرنسا، من المتوقع أن تشهد فرنسا نمواً بنحو 0.7 بالمئة هذا العام. لكن وبحسب الخبير الاقتصادي في بنك بي إن بي باريبا، ستيفان كولياك، فإنه "لولا الأزمة السياسية، لكان النمو أقرب إلى 1 بالمئة على الأرجح". وتوصل ماكسيم دارميه، من شركة أليانز تريد، إلى النتيجة نفسها، حيث قدّر تراجع النمو بـ 0.3 نقطة مئوية.
وفقاً لهؤلاء الخبراء، ينبع هذا التباطؤ الاقتصادي الكبير من الحذر الشديد الذي تبديه الأسر والشركات. فخوفاً من زيادة الضرائب أو خفض الدعم الحكومي، تتردد الأسر في الإنفاق، بينما تؤجل الشركات الاستثمار.
بينما يرى البنك المركزي الفرنسي أن النمو الاقتصادي في البلاد كان مرنًا في الأشهر الأخيرة على الرغم من حالة عدم اليقين السياسي المتزايدة التي تثقل كاهل قادة الأعمال.
وأفاد بنك فرنسا في مسحه الاقتصادي الشهري، الذي نشرته بلومبيرغ، أن الاقتصاد قد توسع بنسبة 0.3 بالمئة تقريباً في الربع الثالث. وهذا يتوافق مع التوقعات السابقة، وسيحافظ على الوتيرة التي سُجلت في الفترة من أبريل إلى يونيو. واستمر النشاط في قطاعي الخدمات والصناعة في سبتمبر، بينما تباطأ في قطاع البناء، وفقًا للتقرير.
في حين يشير التقرير إلى أن الاقتصاد الحقيقي في فرنسا صامد، إلا أنه لا يعكس التطورات الأخيرة في الملحمة السياسية طويلة الأمد بالبلاد.
مشهد معقد
يقول خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن المشهد السياسي في فرنسا ما زال معقداً على الرغم من تشكيل حكومة بقيادة سيباستيان لوكورنو، موضحاً أن "الحكومة الجديدة ستواجه صعوبات كبيرة في نيل ثقة البرلمان الفرنسي".
ويستطرد: "من المتوقع أن تواجه الحكومة معارضة شديدة من الأحزاب البرلمانية، خصوصاً فيما يتعلق بمشروعات الميزانية العامة الجديدة التي ينبغي تبنيها بشكل عاجل".
ويعتقد بأن عددًا من الشخصيات اليسارية سيعيقون عمل الحكومة الجديدة، ما قد ينعكس سلباً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا خلال الفترة المقبلة.
عاصفة سياسية
من باريس، يقول الكاتب والمحلل السياسي نزار الجليدي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن ما وصفها بـ "حالة الشلل المستمرة في السياسة الفرنسية" لا تسمح لرئيس الحكومة بتمرير الميزانية بسهولة.
ويضيف: "فرنسا تعيش على وقع خيبات سياسية متتالية، تتبعها حالة من الشلل الحكومي، حيث بات من الصعب إقامة حكومة تصمد أمام العواصف السياسية المتتالية"، مشيراً إلى أن "الاختبار الكبير أمام فرنسا اليوم لا يتعلق فقط بالموازنة العامة أو التوازن المالي، بل في قدرتها على إعادة ترتيب بيتها السياسي والإبقاء على حكومة مستقرة ولو لبضع ساعات".
ويتابع: "ما ينتظره الفرنسيون هذا الأسبوع هو سقوط جديد للحكومة الحالية، وربما عاصفة سياسية تمتد آثارها حتى إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، إذ من المرجح ألا تتم المصادقة لا في البرلمان ولا في دائرة المحاسبات على الخطة الذي تنوي الحكومة تقديمها".
ورغم أن معظم الأحزاب، باستثناء حزب التجمع الوطني، حريصة على تجنب إجراء انتخابات جديدة، فإنها متباعدة للغاية بشأن قضايا رئيسية بما في ذلك الميزانية، لدرجة أن التوصل إلى تسوية قد لا يكون ممكنا، وقد تفشل رئاسة لوكورنو للوزراء للمرة الثانية.