الدكتور مطيع الشبلي
في صباح كل يوم، يودّع الآباء أبناءهم وهم يدخلون بوابات الجامعة، عابِسين بين الخوف والأمل؛ خائفون من أن يصيبهم مكروه أو أن تتبدّل أحوالهم بأهوال لا تليق بمكان العلم والمعرفة. هذه صورة الشارع الجامعي اليوم في الأردن، حيث تكرّر المشهد المؤلم: “يا رب ترجع بالسلامة”.
الواقع المرير: الشغب الجامعي يؤشر على أزمة أكبر
ما شهدته الجامعة الأردنية اليوم من مشاجرة بين طلبة داخل الحرم الجامعي يؤكد أن الجامعة لم تعد ملاذاً للتلاقي الحضاري بقدر ما تتحوّل إلى ميدان صراع يُفاقم من حدة التوتر الاجتماعي بين الطلبة.
الإدارة أكّدت أنها بصدد التحقيق بحادثة إدخال أشخاص عنوة إلى الحرم الجامعي ومتابعة من شارك فيها، مع تهديد بفصل كل من يثبت تورّطه في الشغب.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يكفي اتخاذ الإجراءات العقابية بعد وقوع الفعل؟ أم أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير؟
لماذا تتكرر هذه الظاهرة؟
ضعف الانتماء الجامعي والقيمي
في ظل انشغالات الطلبة بتأمين برّ المقعد، أو النجاح بأي وسيلة، تفقد الجامعة دورها كحاضنة للقيم والمواطنة. كثير من الطلاب يتشبّثون بعلاقات قبلية أو مناطقية تُستعمل كغطاء للنزاعات.
غياب الحوارات المكيفة والمشروعات الثقافية داخل الحرم
عندما لا يجد الطالب مساحة للتعبير أو الجدال البناء، تتحوّل الخلافات الصغيرة إلى احتكاكات عنيفة.
التفريغ الاجتماعي
العنف الجامعي ما هو إلا انعكاس لعنفٍ أوسع في المجتمع، حيث تُغذّى النزعات العشائرية والمناطقية وتُستصلحة في فضاءات مثل الجامعات.
التدخّل الخارجي وسلوكيات غير جامعية
في حالة الجامعة الأردنية، وردت أنباء بأن بعض المشاركين في المشاجرة كانوا “من خارج الجامعة” أو ملثّمين، ما يزيد من تعقيد الأمر ويفتح الباب أمام فرضيات عن تحريض خارجي.
الآثار الخطيرة
الانكفاء على الحرم: خوف الطلبة من الخروج أو التنقّل بين الكليات، أو الانسحاب من الأنشطة الطلابية خوفًا من المواجهة.
التشويه الإعلامي لصورة التعليم: الجامعة تفقد هيبتها أمام المجتمع، وتُساءُ فهم دورها الرسالي.
الترهيب: يربط كثير من أولياء الأمور دخول ابنهم الجامعة بالخوف من تعرضه للخطر، وكأنهم يودّعونه في معركة، لا في رحلة تعليمية.
تراجع الأداء الأكاديمي: حين يسود الخوف والتوجس، تتكدّر البيئة الدراسية، وتركّز الطاقة تُصرف على التأقلم والبقاء لا على الإبداع والتعلّم.
ما نحتاجه لتصحيح المسار
تعزيز الوعي الوطني والجامعي منذ المراحل المدرسية، بحيث يشعر الطالب أن الجامعة ليست مكانًا للتقسيم بل ملتقى للتكوين والتنوير.
فتح قنوات الحوار والتعبير داخل الجامعات من خلال نوادٍ ثقافية وسياسية تُدار بإشراف أكاديمي، وتُشجّع النقاش بدل القمع.
ترشيد العقوبات: ليست العقوبة بحد ذاتها حلاً، بل ينبغي أن تكون جزءًا من استراتيجية تربوية إصلاحية، لا مجرد رد فعل أمني.
تحسين إدارة الأزمات الجامعية من خلال فرق استجابة سريعة وسياسات وقائية قبل التصعيد.
الشراكة المجتمعية: استقطابِ أولياء الأمور والمجتمع المحلي ليكونوا شركاء في ضمان بيئة آمنة للتعليم، وليس فقط مراقبين من الخارج .
من الآخر الجامعة ليست جبهة حرب
إننا اليوم أمام خيارين: أن نستسلم للعنف الجامعي كأمر مألوف، أو أن ننهض ونقول بصوت مدوٍّ: «كفى».
إذا نحن أردنا لجامعاتنا أن تصبح منارات للعقل، لا ساحات صراع؛ إذا أردنا أن يذهب أبناؤنا إلى الجامعة برغبة في التعلّم وعائداً بسلامة الفكر والبدن؛ فلابد أن نعمل – كل واحد منا – ليلاً ونهاراً على بناء ثقافة جديدة تحمي الحرم الجامعي من الانهيار الأخلاقي.
فلا نريد أن يبقى أولياء الأمور يقولون:
“يا رب ترجع بالسلامة”
بل نريد أن نقول يومًا:
“اذهب وتعلم، وعُد فتخلق وابدع”.