في الجنوب اللبناني، لم يعد المشهد يحتمل التأويل أو التخفيف. ما جرى خلال الساعات الماضية من قصف إسرائيلي مكثّف على مخيمات ومدن جنوبية — أبرزها عين الحلوة ومحيط صيدا وبلدات طيردبّا وعيّتا الجبل والطيري — يكشف بوضوح أن إسرائيل انتقلت من عملية الاحتلال لشريط لبنان الجنوبي إلى نهج قصف ممنهج توسعي يختبر حدود اتفاق وقف الخروقات الذي رعته باريس وواشنطن بغطاء دولي. ورغم التحذيرات المسبقة التي تبعثها إسرائيل لسكان القرى، إلا أن النتائج على الأرض تؤكد أنّ المدنيين هم من يدفعون الثمن: قتلى، جرحى، نزوح داخلي، وانهيار مزيد من الأمن الاجتماعي داخل الجنوب.
لبنان الرسمي وجد نفسه مضطراً لطلب جلسة عاجلة لمجلس الأمن، بعدما باتت الخروقات تتجاوز قدرة أي حكومة على امتصاصها أو تجميد آثارها. فالقصف هذه المرة ليس “حادثاً حدودياً” بل استهدافاً عميقاً لمناطق مدنية مكتظة، بالتزامن مع احتجاجات واسعة وإضراب عام، ما ينذر بارتجاج سياسي داخلي قد يفتح باباً إضافياً للأزمة المشرعة أبوابها ، الضغط الشعبي اليوم موجّه للدولة بقدر ما هو موجّه لإسرائيل: أين قدرة الردع؟ أين حماية المواطنين؟ ومن يقود معركة الدفاع السياسي عن الجنوب؟
عسكرياً، إسرائيل تستخدم مزيجاً من الضربات الجوية الدقيقة والمسيّرات، معتمدة على بنك أهداف استخبارية داخل المخيمات والبلدات القريبة من الحدود. هذا النمط يكشف رغبة في تفكيك أي قدرات لوجستية لفصائل فلسطينية أو مجموعات مقاتلة مرتبطة بحزب الله تحسباً لأي محاولات لاعادة الاستعداد او حتى اخذ وقت راحة للتفكير او نية الرد خاصة بعد قرارات هيئة الامم المتحدة بخصوص غزة ، كل ذلك بدون الذهاب إلى حرب برية واسعة. وفي المقابل، يبدو حزب الله وقدراته المتواضعة بعد ما تلقى من ضربات في حالة “ردع محسوب”: لا يريد انجراراً إلى مواجهة شاملة، لكنه لن يسمح بتحوّل الجنوب إلى ساحة مفتوحة للقصف الإسرائيلي كما جرى خلال الأيام الماضية. المعادلة شديدة الحساسية، وأي خطأ في الحسابات — ضربة كبيرة، أو سقوط أعداد أكبر من المدنيين — يمكن أن يرفع مستوى المواجهة إلى مستوى آخر.
استراتيجياً، تحاول إسرائيل فرض وقائع ميدانية جديدة قبل أي ترتيبات دولية دائمة للحدود الجنوبية او حتى تحسباً لما ستؤول اليه الأمور في غزة . تريد أن تقول للبنان والمجتمع الدولي: لن نقبل بعودة أي بنية عسكرية جنوب الليطاني، ولو تطلّب الأمر ضربات متكررة داخل المخيمات والبلدات. في المقابل، لبنان الرسمي يسعى لجرّ الأمم المتحدة إلى خط تماس دبلوماسي أشدّ، إلا أن قدرته الفعلية على فرض وقف للخروقات محدودة، في ظل خلل توازن القوة وتفكك الداخل اللبناني.
المستقبل القريب لن يكون هادئاً. السيناريو الأكثر ترجيحاً هو استمرار القصف الإسرائيلي بطريقة متقطعة لكن مركّزة، مع تصاعد الاحتجاجات وتزايد الضغط على الحكومة اللبنانية. أما السيناريو الأخطر — مواجهة واسعة بين حزب الله وإسرائيل — فلا يزال بعيداً، لكنه يقترب كلما ازدادت الخسائر المدنية ولم تنجح الوساطات الدولية بفرملة التصعيد. الجنوب اليوم يقف على حافة مرحلة جديدة: لا حرب شاملة… لكن بالتأكيد لا وقف إطلاق نار فعلي.
صالح الشرّاب العبادي