أخبار اليوم - أسبوعان مضيا، غاب فيهما صوت الناشط أيمن غريّب (42 عاما) من بلدة طمون المحاذية للأغوار الشمالية في الضفة الغربية، ولم يوثق الانتهاكات الحاصلة فيها. وهو الذي يوصف بـ"المكّوك الذي يعمل بطاقة مؤسسات، ولا يدخر جهدا في توثيق أي اعتداء من قبل المستوطنين"، لكنه اليوم يواجه اعتقالا إداريا لمدة 6 أشهر.
معرفته الدقيقة واطلاعه الواسع على واقع منطقة الأغوار "التي يعرفها بالشبر من مسافر يطا (جنوبا) لغاية بيسان (شمالا)" كما وصفه أخوه بلال، وتمكّنه من الوصول إلى المناطق المعرضة للخطر، جعله قادرا على التوثيق الفوري للانتهاكات بالصوت والصورة والبث المباشر، الأمر الذي جعل منه حلقة وصل أساسية بين ما يحدث على الأرض وبين الجهات الحقوقية والإعلامية المحلية أو الدولية.
الاستهداف والتحريض
أزعج نشاط غريّب وتوثيقه للانتهاكات المستوطنين ودفعهم للتحريض عليه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدا من خلال تعليقاتهم على صفحة وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير، حيث طالب بعضهم بـ"إرسال غريّب إلى غزة، أو قتله بدلا من سجنه لضمان عدم عودته"، في حين عبّر مستوطنو يحتلون منطقة فصايل عن "ارتياحهم المؤقت" لغيابه وغياب الصحفيين المرافقين له.
يقول شقيقه بلال للجزيرة نت "أيمن كان ينشر باللغتين العربية والإنجليزية، حتى يرفع مستوى الوعي المحلي والعالمي بخطورة الاعتداءات المستمرة في الأغوار، وكان يوصل صوت هذه المجتمعات المهمشة، التي غالبا ما كان يتم تجاهل معاناتها أو يتم ترحيلها بصمت، وهذا ما أزعج المستوطنين أكثر".
وأكد بلال أن شقيقه كان عرضة لملاحقات مستمرة، نتيجة عمله في مناطق حساسة تعد مسرحا لعمليات الاستيطان ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية، حيث كان يتم احتجازه لساعات طويلة عند مروره بأي حاجز عسكري، فضلا عن تعرضه لإطلاق النار واحتجازه من قبل المستوطنين في الميدان مرات عديدة.
يشار إلى أن أيمن أب لـ4 أبناء، أصغرهم طفلته "رينا" التي احتفل بعيد ميلادها الأول قبل أسبوع من اعتقاله يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد أن احتجزه المستوطنون بشكل غير قانوني أثناء وجوده في بلدة "فصايل" بالأغوار، وهي تجمع سكاني فلسطيني يواجه خطر التهجير القسري واعتداءات مستمرة من الجيش وسكان البؤر الاستيطانية.
وسرد بلال مفارقة مؤلمة تكررت مع أيمن، حيث اعتُقل 3 مرات سابقا بالتزامن مع ولادة أطفاله الثلاثة الأوائل، إذ كان يدخل السجن وهم بعمر الشهر ويخرج وهم بعمر السنتين، مما جعلهم لا يتعرفون عليه عند خروجه، ويقدر مجموع ما قضاه أيمن في سجون الاحتلال بأكثر من 5 سنوات.
وكشف بلال عن تفاصيل الأيام الثلاثة الأولى لاعتقال شقيقه، حيث علموا لاحقا أن أيمن احتُجز سرا في "قاعدة سمرة" العسكرية بالأغوار، وهو معسكر تدريبي إسرائيلي يفتقر لأدنى مقومات الاعتقال، فهو لا يحتوي أصلا على غرف احتجاز ولا خدمات تقدم للمحتجزين.
وهناك، تُرِك أيمن في العراء، مكبل اليدين، يعاني من البرد والحرمان من الطعام، كما تعرض لضرب مبرح من قبل الجنود، لدرجة استدعت نقله إلى مستشفى إسرائيلي مرتين خلال تلك الأيام الثلاثة، نتيجة الاعتداء الوحشي.
نشاط ميداني استثنائي
يصف الصحفي حافظ أبو صبرة الناشط المعتقل أيمن غريب بأنه "العنوان الأول والأساسي" لأي صحفي يرغب في إعداد مواد إعلامية عن منطقة الأغوار، لأنه يحفظ جغرافيا الأغوار بدقة متناهية، ويعرف كل تفاصيلها.
ويقول أبو صبرة للجزيرة نت "ما ميز أيمن عن غيره هو مبادرته الدائمة، فبدلا من انتظار تواصل الصحافة معه، كان هو من يسعى لجلب الكاميرات إلى قلب الحدث، وكان حريصا على نقل معاناة الناس وتسليط الضوء على قضاياهم، مما جعله المحرك الأساسي للتغطية الإعلامية في تلك المنطقة".
ويلفت الصحفي إلى أن غريّب لم يكتفِ بالدور التنسيقي، بل كان مضيفا ورفيقا للصحفيين، يفتح لهم بيته لأيام طويلة، ويستذكر جهوده خلال اجتياح سابق لبلدة طمون في شهر يناير/كانون الثاني الماضي.
ويقول "بادر أيمن بتجهيز مسكن آمن للصحفيين في ظل إغلاق البلدة، وتكفل بنقلهم بسيارته الخاصة عبر الطرق الجبلية الوعرة، موفرا لهم كافة احتياجاتهم، واضعا نصب عينيه هدفا واحدا وهو ضمان وصول صوت أهالي طمون ومعاناتهم إلى العالم رغم الحصار".
ويشير أبو صبرة إلى أن الناشط غريّب يمتلك وعيا سياسيا وميدانيا متقدما، حيث كان صوتا نادرا يحذّر من مخططات التهجير قبل اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ويقول "في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وثّق أيمن كيف قام الاحتلال بتهجير التجمعات البدوية لبناء مدرسة دينية استيطانية، محاولا لفت الأنظار إلى أن البيوت أصبحت خاوية، وذلك في وقت كان فيه الصمت سيد الموقف لدى الجهات المختصة".
ميدان بلا شهود
يقول مدير النشر والتوثيق في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أمير داود، إن واقع التوثيق الميداني يمر بضغوط غير مسبوقة خلال الشهور الأخيرة، نتيجة لحجم الاعتداءات الهائل واتساع رقعتها الجغرافية وتعدد أنماطها.
وقال للجزيرة نت إن "ما يميز هذه المرحلة هو تحول اعتداءات المستوطنين لتصبح أكثر تنظيما واعتمادا على المجموعات شبه العسكرية، مما يفرض تحديات كبيرة على طواقم الهيئة والفرق المتطوعة، ويضاعف من أهمية وجود توثيق محترف وسريع لكشف الرواية الحقيقية قبل تعرضها للتزوير أو الطمس".
وأشار داود إلى تصاعد ممنهج في استهداف الموثقين والنشطاء الميدانيين، حيث انتقل المستوطنون وقوات الاحتلال من الترهيب اللفظي إلى الاعتداء الجسدي، والخطف المؤقت، ومصادرة الهواتف، وصولا إلى الاعتقالات المباشرة كما حدث مع الناشط أيمن غريب.
ويرى داود أن هذا السلوك ليس عشوائيا، بل هو محاولة لفرض "منطقة عمياء" في المناطق الساخنة كالأغوار وشمال الضفة، لأن الاحتلال يدرك أن التوثيق هو الحلقة الأهم في كشف جرائمه، مما جعل الموثقين جزءا من دائرة الاستهداف المباشر.
تعرض أيمن لتعذيب قاسي في قاعدة _سمرة_ العسكرية في الأغوار نقل على إثره إلى المستشفى- مصدر الصورة_ مي شاهين - مواقع التواصل الاجتماعي -
تعرض أيمن لتعذيب قاسٍ بعد اعتقاله في قاعدة سمرة العسكرية بالأغوار (مواقع التواصل)
ويؤكد داود أن "أيمن لم يكن مجرد حامل للكاميرا، فقد كان قادرا على تفكيك الرواية الإسرائيلية وفضح ممارسات مليشيات المستوطنين وجماعات شبيبة التلال في نقاط الاشتباك اليومي بالأغوار"، حيث حوّله تواصله الفعال مع المؤسسات الحقوقية والإعلامية، ودوره في فضح الجرائم والمسؤولين عنها، إلى هدف مباشر للاحتلال.
وقال إن "الاحتلال يريد ميدانا بلا كاميرات وبلا شهود، يريد جريمة تمشي على الأرض بلا معيقات ودون فضحها وفضح المسؤولين عنها، وأيمن كان عقبة حقيقية أمام هذا الهدف".
الجزيرة