د. بثينة محادين
البداية الصحيحة لأي مشكلة هي الاعتراف بوجودها ومدى تأثيرها في الإنسان، وعلى المحيط حوله، أما سياسة الهروب من الاعتراف والمواجهة فهي سياسة سلبية فاشلة، لأنها تسعى لإيجاد حلول مؤقتة وسطحية تتبخر مع ظهور أي مشكلة أخرى.
هل سألتم أنفسكم يوما ً…. لماذا نرفض الواقع، ونهرب من مواجهته، ولا نريد توثيقه؟ هل لأننا لا نريد أن نعترف بأخطائنا، أم لأن الواقع يواجهنا بالحقيقة، ويجعلنا نصطدم بكل عثراتنا…
هل سألتم أنفسكم؟ لماذا نحب النظر في المرآة؟ … لأنها تعكس صورتنا الخارجية فقط، صورتنا الجميلة، حتى إذا أردنا النظر فيها نكون مستعدين لذلك جمالاً وهنداماً، أي نريد أن نتأكد من صورتنا الجميلة، والتي بذلنا جهداً للوصول إليها.
لكن ماذا لو كانت المرآة تعكس حقيقة أنفسنا وتفكيرنا ونوايانا من الداخل، وتعكس صورتنا الحقيقية، لا بل وتوثقها! هل سنتقبلها ونذهب لمشاهدتها في المرآة، ونستسلم لتوثيق المرآة لها؟ أم أننا سنعتزل النظر في المرآة لتصبح بالية لا أحد يتطلع فيها منبوذة لا قيمة لها، كل ذلك لأنها حاولت توثيق الحقائق ومواجهتنا بها.
فمن منا ينكر حقيقة صدق الصوت النابع من داخلنا؛ من أعماقنا؛ الذي ينادينا دائماً ليذكرنا بأخطائنا وليعيد حساباتنا مع بقايا ضمير غرق في بحر زمن الاعوجاج. ليخدعنا صوتنا ويواجهنا بجميع القناعات المزيفة؛ غير الحقيقية التي يحملونها لنا، محاولين إقناعنا بصحتها وهي على العكس تماماً.
إن طريقة مواجهة الواقع المشبع بالظلم دون الانفصال عنه هي طريقة قديمة جُرِّبَت عن طريق العديد من المغيرين والفلاسفة والمفكرين من أجل رفض الظلم والاستبداد، ومن أبرز من خاضها الفيلسوف اليوناني “سقراط” حيث إنه لم يقبل ما يحدث في الواقع آنذاك، بالاقتحام والمواجهة، وأعلن رفضه للأفكار غير العادلة ومحاربتها بالحجة والبرهان، وظل ثابتاً على مبادئه إلى أن مات فداءً لها.
إن البعض من العادلين يكونون غير قادرين على ردع الظلم بالقرار، لذلك يلجأون للفكر عن طريق محاربة الأفكار غير العادلة وتوضيح مدى إجحافها لردع الظلم، وهذا الأسلوب يعرف ب "ذبابة الخيل" وأتبعه سقراط، فلم يكن يحاول تعليم الناس عن الظلم أو العدل بشكل مباشر، بل كان يعطي انطباعًا أنه يريد أن يتعلم من محدثه، فيجعل الشخص الذي يحدثه يصل للإجابة والمعرفة بنفسه بعد أن يطرح عليه بعض الأسئلة، ويتظاهر أنه لا يعرف شيئاً، ثم يرتب الحوار بشكل يجعل المحاور له يجد نفسه محصوراً بحيث يضطر إلى التمييز بين الخطأ والصواب، وهكذا كانت تتمثل مهمته في جعل العقول تنتج أفكاراً صحيحة عادلة.
وكذلك حوكم سقراط بتهمة تخريب عقول شباب أثينا؛ لأنه كان يحثهم على التفكير العاقل، فقد جادل وتناقش مع هيئة المُحَلفين التي كانت تحاكمه، فعندما طلبوا منه أن يختار أسلوب العقاب الذي يستحقه، رد عليهم واقترح أنه لا يستحق العقاب، بل يجب أن يثاب ويرى بأن من حقه أن يحصل على مكافأة وهي أن يعيش بقية حياته على نفقة الدولة كجزاء لما بذل من وقت سعي لإفادة الأثينيين… وهكذا استطاع سقراط بمنطقة أن يظهر عدم عدل من يتهمونه، وجعلهم يدركون أن ما يفعلونه ليس الصواب حتى وإن ادعوا ظاهرياً عكس ذلك.
لقد أُعدم سقراط من أجل أفكاره التي كان ينشرها بين شباب أثينا عن ضرورة وجود غاية للحياة وعن ضرورة استخدام عقولهم في اتخاذ قراراتهم وإيجاد غايتهم، وقد عُرض على سقراط قبل إعدامه أن ينجو من الموت مقابل أن يتخلى عن أفكاره، لكنه رد عليهم قائلاً “لن أرفض فلسفتي إلى أن ألفظ النفس الأخير”.
ما أريد قوله هو: أننا نعيش ومنذ زمن بعيد في صراع مع الواقع، فالتصدي للظلم ومحاربته له ثمنه الباهظ، وسيبقى الصراع مستمراً بين العقل والواقع غير العادل لذلك يجب علينا أن نحافظ قدر الإمكان على مبادئنا ومعاييرنا الثابتة، لكي لا نصاب بهشاشتين، (هشاشة الفكر والواقع معاً). الثبات على المبادئ والمعايير الصحيحة هي السلاح الوحيد الذي نستطيع استخدامه إذا اشتدت معركة الحياة.
فالجسد يفنى، لكن الأفكار تبقى خالدة ثابتة، والفكرة إن ولدت لا نستطيع التخلص منها. وكما قال غسان كنفاني: "تسقط الأجساد لا الفكرة".