الطِّفل "نوح السقا" .. أطفأ شمعة ميلاده الـ10 ورحل

mainThumb
الطِّفل "نوح السقا".. أطفأ شمعة ميلاده الـ10 ورحل

14-05-2025 11:58 AM

printIcon

أخبار اليوم - في ليلة جميلة أضاءت فيها فرحةٌ تسللت بين ليالي الحرب الدامية، قلب الطفل نوح داود السقا (10 سنوات) وهو يوقد شمعة ميلاده العاشرة، بحضور عائلته وأبناء عمه الذين دعاهم على حفل عائلي صغير مساء السادس من مايو/ أيار 2025، وأغلق عينيه في تلك الليلة والفرحة لم تسع قلبه، شارك شقيقته الكبرى وأمه ما يملأ قلبه قائلاً: "اليوم أحلى يوم في حياتي. انبسطت كتير".

على طاولة بسيطة، تضم قالب حلوى (جاتوه) صنعتها أمه بصعوبة من رحم التجويع، فكل مكوناتها منعدمة تمامًا مع نفاد معظم السلع، وشمعة واحدة، غنّى أطفال العائلة لـ "نوح" وتمنوا له أمنيات عديدة، في مقطع مرئي وثقه والده وهو يقبّله ويعطيه هديةً في هذه الذكرى الجميلة، كانت الفرحة تملأ ملامح الطفل ذو الشعر الحريري المائل، يشعُ وجهه بهجة وحياةً.

لم يكن الصباح كما الليل، عندما غادر الطفل مستاءً من تكرار نفس طعام الإفطار والغداء، في ظل حالة تجويع تفرض نفسها على الأهالي وتنعدم معها خيارات إعداد وجبات الطعام، وذهب لسوق شارع الوحدة، يبحث بين البسطات، عن حاجيات أطفال تغيّر طعم الحياة، المُر، وكان يبحث عن مسليات "شيبس"، ليدوي صوت انفجار على مفرق السوق بعد استهداف الاحتلال لمجموعة مواطنين، وصل صداها لوالده الذي يجلس في محل تجاري قريب من السوق، الساعة الثالثة من عصر الأربعاء الماضي.

داخل محله التجاري بشارع الوحدة، يمرر والده أصابعه على ملامح طفله بالصور التي يقلبها بالهاتف وهو يحاول استعادة ذكرياتٍ تجمد عندها الزمن، تتساقط دموعه على ضحكات طفله، يحكي لـ "فلسطين أون لاين" عن فقد وكأنه يحمل جبلا من الحزن: "ملّ طفلي نوح، من تكرار نفس الطعام كالفول أو المعلبات، وذهب لشراء "الشيبس" من السوق. عندما سمعت أصوات توالي الانفجارات، اتصلت على زوجتي أسألها عن نوح، فصمتت في تعجب وتساءلت: "هو مش عندي. فكرته أجاك!؟"".

بحث طويل

بعد دقائق من محاولة الأم البحث عنه وتكليف أخوته الأربعة (بنتان وولدان) بالبحث عنه، وعندما لم يجدوه في بيت جده أو الأماكن التي اعتاد الذهاب إليها، لم يكن أمام والده سوى الذهاب لمشفى الشفاء للبحث عنه، "ذهبت للمفرق، ولم يكن بين الشهداء الممددين على الأرض ولا بين المصابين، فذهبت لمشرحة الجثامين بمشفى الشفاء، تجولت بين الجثامين، بحثت بين وجوه الشهداء الأطفال. بحثت عنه بين أسرّة المرضى، في الممرات، وفي كل مكان ولم أعثر عليه، ثم عاودت الكرّة في بحثٍ جديد ولم أجده". بصوت متقطع، متحشرج، ينتزع والده تلك المشاهد من قلبه المكلوم.

تغرق عينا والد الطفل في دموعٍ، رافقت صوته: "قالت لي زوجتي: "لو صرخت باسمه، ربما يسمعك" لأن المشفى كان مليئًا بالمصابين والشهداء وذويهم، بشكلٍ لا يوصف. الشهداء والمصابون، ملقون على الممرات والأرض في حالة لا يمكن وصفها. بدأت بالمناداة عليه، مرة، واثنتين، وثلاثة، لعله يسمعني لكن دون فائدة، ثم بدأت بسؤال الناس عنه، وبعد قرابة 45 دقيقة من البحث أخبرني أحدهم أنه رأى طفلا بشعرٍ ناعم مُصابًا في غرفة طبية أشار إليها".

داخل الغرفة، وقف الأبوان بصدمة، ونظرات متصلبة، وهما يريان بقعة دماء أسفل رأس طفلهما الممدد على الأرض، لامتلاء الأسرّة داخل الغرفة الطبية، أكثر ما استطاع والده فعله في هذه الحالة، رفع رأس الطفل عن الأرض ووضعه على قدمه، كان يسمع ويرى آخر شهقات طفله وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي والده. لم تنجح المحاولات الطبية بإسعاف الطفل المصاب بحالة خطرة بالرأس.

يتأمل السقا المشهد، ويعلق بكل مرارة عاشها في تلك اللحظة حينما أصابه العجز، لم تتركه الدموع يكمل دون حضورها، في لحظة كان قلبه ينزفُ أيضًا قهرًا وحزنًا، ويدوي صوته في مخزن بضائع فارغ: "كان يخرج شهيقًا عندما دخلت الغرفة. أصابني العجز. أكثر شيء مزق قلبي، أنني لا أستطيع مساعدته، خاصة أن إمكانيات المشفى ضعيفة بعد تدميره". يختنق صوته: "ابني استشهد قدامي، بين ادي، وأنا مش قادر أعمله اشي".

اللقاء الأخير

عن حفل يوم ميلاده، يتحرك صوت الفرح في قلب الأب المثقل بالوجع: "قبل يوم ميلاده بأسبوع، ألح علينا أن نعد له كعكة يوم ميلاده. وفرنا مكوناتها بشق الأنفس بعد نفاد معظم السلع من الأسواق. جهزت أمه قالب الحلوى مبكرًا يوم الثلاثاء (6 مايو) وكانت مفاجأة له، وعندما أخبرناه بها، ذهب ودعا أبناء وبنات أعمامه، الذين حضروا ميلاده، تجمع الجميع حول شمعة الميلاد. بالرغم من ظروف الحرب كانت فرحته كبيرة، قالت لي أختي وهي تعلق على تقبيلي المتكرر له ممازحةً: "كأنك بتودع فيه"، يعلق بصوته المكسور خلف الدموع: "والله كنت بودع فيه. كانت آخر ذكرى".

امتاز الطفل على براءته، بحبه لإطعام الطيور، فكان يأخذ بقايا طعام العائلة وينثره على سطح البيت كي تأكل منه الطيور الجائعة، وعندما كان يذهب للمدرسة – يقول والده – كان يخبئ نصف رغيفه ويطعمه للقطط: "طفل كهذا لديه براءة، يحبه الناس، فيحبه أبناء المدرسة ويأتون للمناداة عليه، ويحبه الكبار لأنه كان يسبق سنه بالأفكار، كان طموحًا يحلم أن يصبح مهندسًا معماريًا مثل شقيقته الجامعية، كي يعمر البلد".

يطرق صوت الطفل أبواب ذاكرة والده، الذي يحاول التماسك أمام فاجعة الفقد، وهو ينتقي بعض المواقف لطفله خلال الحرب: "كان دائما يسألني: "بدوش يخلص القصف. وين في منطقة فش فيها قصف!؟"، يريد السفر لبلاد الحرمين عندما عرف أنها بلاد آمنة، ودائما يسألني، عن الأطفال الشهداء ويقول لي: "ايش ذنبهم. ليش بقتلوهم، ولما يموتوا، وين بروحوا!؟"، فأخبرته، أنهم يذهبون للجنة، ولم تنته أسئلته عن الجنة".

لم تنقطع أمنية الطفل بأن تنتهي الحرب، و"يعيش طفولته كبقية أطفال العالم" كما كان يحدث والده، يستذكر بصوت مخنوق: "يوم اتفاق التهدئة، خرج من الساعة السادسة صباحًا، حتى قبل أن تستيقظ العائلات من نومها، وقال بارتياح: "الحمد لله فش صوت صواريخ وقذائف"، وذهب للعب على الأراجيح، لكنها لم تدم طويلا وعادت الحرب وسرقت فرحة كل الأطفال".

أما في العيد، فكان الطفل يطير على جناحي الفرح عندما اشترى ملابس جديدة، لكنها كانت ممزوجة بالغصة عندما استشعر بأجواء الحرب تفرض نفسه، يحضر صوته حديث والده وهو يتأمل صورته بملابس العيد على هاتفه المحمول: "تساءل يومها: "ليش احنا لابسين أواعي العيد، وقاعدين بالدار فش فرحة، والناس برا حاسين بالعيد!؟، ويومها قلت له: هذا مكتوبٌ علينا أن نعيشه".

داخل ركنٍ واسع بمخزن البضائع الذي كان يجلس فيه السقا، وإلى الخلف يركل آدم (12 سنة) وهو شقيق نوح، الكرةَ، يلهو الطفل وحيدًا بعد رحيل شقيقه الذي كان يرافقه يتردد صوت نوح وحركته في كل ركن يشير إليه شقيقه، "لا يوجد من ألعب معه اليوم، كنا نلعب هان أنا ونوح، كل مشاورينا مع بعض، نشاهد الهاتف معها، ننام بجانب بعضنًا، الآن أنظر لمكانه فارغًا" يقول الطفل الذي كان يحاول حبس دموعه.

بفاصل زمني قصير، عاش الأبُ مشهدين، في الأول رسم وجهه ضحكة عريضةً وهو يحتفي بميلاد طفله، ويقبله، ويمسح بيديه على شعر طفله ويضمه لذراعيه، وفي الثاني عندما وقف في ثلاجات "الشهداء والموتى" يلقي نظرة الوداع الأخيرة على طفله الممدد على السرير قبل وضعه بالكفن الأبيض، كان الطفل يرتدي نفس القميص الوردي. اختفى شعره الأسود خلف شاش لف رأسه وأوقف النزيف، ونام نومة طويلة.