أخبار اليوم - في مراكز الإيواء المكتظة في غزة، لا يقتصر الألم على الجوع والخوف، بل يمتد إلى معاناة يومية صامتة يعيشها الرضّع وذووهم، بعدما حوّل الحصار حفاضات الأطفال إلى ترف نادر، وأجبر الأهالي على استخدام القماش والنايلون، ما أدى إلى تفشي أمراض جلدية مؤلمة بين الصغار.
داخل أحد الصفوف الدراسية في مدرسة غربي مدينة غزة، والتي تحوّلت إلى مأوى مؤقت لعشرات العائلات النازحة، يجلس نعيم عوض (37 عامًا) إلى جوار طفلته الرضيعة، يحاول تهدئتها بعدما انفجرت في بكاء متواصل منذ الفجر. لم يكن الجوع هذه المرة، بل الجلد المحترق تحت قطعة نايلون استخدمها بديلاً عن الحفاضة.
يقول نعيم بصوت يملؤه الإحباط لصحيفة "فلسطين": "البحث عن حفاضات للأطفال أصبح مهمة شبه مستحيلة. لا توجد في السوق، وإذا وُجدت فأسعارها تجاوزت كل منطق. أُجبرنا على استبدالها بقطع قماش قديمة ونايلون، لكن النتيجة كانت كارثية: الطفلة أصيبت بتسلخات حادة والتهابات جلدية مؤلمة".
هذه المعاناة ليست استثناءً، بل جزء من واقع يومي يعيشه آلاف الآباء والأمهات في مراكز الإيواء، بعد أن هجّرهم القصف وتركهم الحصار دون أبسط مقومات الحياة، ومنها حق الطفل في حفاض نظيف.
منذ مطلع مارس/آذار 2025، ومع توقف إدخال المساعدات إثر انهيار اتفاق الهدنة، أُغلقت المعابر لأكثر من شهرين، في أطول فترة إغلاق تشهدها غزة. تسببت هذه القيود الخانقة في أزمة إنسانية شاملة، لا سيما في المواد الأساسية الخاصة بالأطفال.
أصبحت الحفاضات سلعة نادرة، وإن وُجدت فهي تُباع بأسعار تفوق قدرة الأسر المنهكة؛ إذ وصل سعر الكيس الواحد إلى أكثر من 100 شيكل (نحو 27 دولارًا)، في وقت لم تعد فيه معظم العائلات تملك حتى قوت يومها، بعد انهيار السوق المحلية، وتوقف الرواتب، وانعدام السيولة النقدية.
أنس الهبيل (40 عامًا)، نازح في مخيم داخلي وسط غزة، يتحدث عن معاناة ابنه البالغ عامًا ونصف، والذي لم ينجُ من آثار البدائل الخطرة للحفاضات.
يقول لـ"فلسطين": "مع ارتفاع درجات الحرارة هذه الأيام، أصبحت بدائل الحفاضات خطرًا كبيرًا على ابني. النايلون والقماش يسببان تسلخات غريبة، وطفلي يبكي طوال الليل. لا توجد حفاضات في الأسواق، وإن توفرت فهي بأسعار خيالية لا أقدر عليها".
يشير أنس إلى أن صيدليات عديدة أغلقت أبوابها، وأن الإغاثات باتت شبه معدومة، بينما يُترك الأطفال يواجهون مضاعفات صحية قد تتطور إلى أمراض جلدية مزمنة أو التهابات بكتيرية خطيرة، في ظل غياب العلاج الطبي.
على الضفة الأخرى من المأساة، تلقى محمد الخطيب (29 عامًا) رسالة قصيرة عبر هاتفه المحمول من وكالة "أونروا" تطلب منه التوجه إلى مدرسة لتسلُّم حصة من المساعدات. لم تكن الرسالة تحمل طعامًا أو دواء، بل ما هو أثمن في تلك اللحظة: كيس حفاضات.
يقول محمد والابتسامة لا تفارق وجهه رغم الإرهاق: "طار قلبي من الفرح! هذا الباكيت أنقذ طفلي ذا التسعة أشهر من التسلخات والأمراض الجلدية. كنت أرى بشرته تتقرح يومًا بعد يوم، ولا أملك له شيئًا. أشعر الآن بالخوف من أن ينفد الباكيت قبل أن تُفتح المعابر أو تنخفض الأسعار".
ويتابع بنبرة حزينة: "كل أمنيتنا أن تنتهي هذه الحرب، أن تفتح المعابر، أن ترخص الأسعار، أن يعود أبناؤنا لحياتهم الطبيعية. لا نطلب أكثر من حفاض نظيف، وغذاء بسيط، وسرير آمن لأطفالنا".
في ظل هذه الكارثة الصامتة، تواصل المنظمات الدولية دقّ ناقوس الخطر. فقد حذّرت وكالة "أونروا" مرارًا من أن استمرار الحصار ومنع دخول المساعدات يُشكّل خطرًا لا يمكن إصلاحه على الأطفال، مؤكدة في بيانها الأخير أن لديها آلاف الشاحنات الجاهزة للدخول، لكن القيود الإسرائيلية تمنعها من الوصول.
وبحسب تقرير التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي الصادر هذا الأسبوع، يُتوقَّع أن يعاني أكثر من 71 ألف طفل في غزة من سوء تغذية حاد خلال الأشهر المقبلة، في ظل انهيار النظام الصحي، وإغلاق مراكز العلاج، وغياب المواد الأساسية، ومنها الحفاضات والمستلزمات الصحية الخاصة بالأطفال.
ويقول عز الحسني، ممرض في مركز طبي خيري شمال غزة: "لم يعد هناك متّسع للخصوصية أو للراحة. الأمهات يأتين كل يوم وهن يحملن أطفالًا مصابين بتقرحات جلدية حادة بسبب إعادة استخدام نفس الحفاضة مرارًا، أو استخدام أكياس بلاستيكية لا تصلح حتى لتغليف الطعام".
وتختم طبيبة تعمل في نفس المركز بمرارة: "تخيّل أن تُجبر أم على غسل قماشة حفاض في مياه ملوثة، ثم تعيد استخدامها على جسد رضيعها المصاب... هذه ليست حربًا فقط، هذه إبادة بطيئة".
ورغم قتامة المشهد، لا يزال الأهالي في غزة يتمسكون بخيط الأمل، ينتظرون فتح المعابر، ووصول المساعدات، وتحقيق الحد الأدنى من كرامة الحياة.
لكن، حتى ذلك الحين، ستظل الطفولة في غزة محاصرة، تُجلد كل يوم تحت لهيب الحرب، وشظايا الحر، وقطعة نايلون لا تصلح حتى لتغطية جرح، لكنها اليوم تغطي براءة.
المصدر / فلسطين أون لاين