يونس الكفرعيني
في الخامس والعشرين من أيار من كل عام، يحتفل الأردنيون بذكرى الاستقلال المجيد، تلك اللحظة الفارقة التي وُلدت من رحم الكفاح، وتشكّلت بعرق الآباء الأحرار، وصنعتها إرادة لا تلين. إن عيد الاستقلال في الأردن ليس فقط مناسبة وطنية، بل هو محطة وجدانية وعقلية يتأمل فيها الأردنيون ما مضى، ويجددون فيها العهد والولاء والانتماء لوطنهم الغالي.
الاستقلال ليس مجرد حدثٍ وقع قبل 78 عامًا، بل هو قصة وطنٍ مستمرة، تكتبها الأجيال كل يوم بإصرارها وصمودها وتفانيها. هو مشروع يومي يقتضي العمل الجاد، والوفاء للمبادئ، والاستمرار في البناء على أسس من العدل والحرية والانتماء. وفي ظل ما تمر به الأمة العربية والإسلامية من أزمات واختلالات، تبدو معاني الاستقلال أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، ويصبح الاحتفاء به عملاً وطنيًا يعيد ترتيب الأولويات، ويذكرنا بأن وحدتنا واستقرارنا هما سر قوتنا.
حين نُقلب صفحات التاريخ، نقف إجلالًا عند محطة الاستقلال الأردني عام 1946، يوم أن أعلن المغفور له جلالة الملك عبدالله الأول بن الحسين، طيب الله ثراه، أن الأردن بات دولة حرة مستقلة ذات سيادة، معترف بها من قبل المجتمع الدولي. لم يكن ذلك الإعلان مجرد صياغة قانونية، بل كان تتويجًا لنضال سياسي طويل، ومواجهة متواصلة ضد قوى الاستعمار والانتداب، وتحقيقًا لحلم راود الأحرار من أبناء الوطن منذ بداية القرن العشرين.
لقد مثّل الاستقلال لحظة تاريخية حرّرت الإرادة الوطنية، ومهّدت لبناء الدولة الحديثة، القائمة على مبادئ العدل والمساواة وحكم القانون. ومنذ ذلك اليوم، لم تتوقف عجلة البناء، ولم تتوانَ القيادة الهاشمية، ومعها شعبها الوفي، عن حماية هذا المنجز والدفاع عنه، وسط إقليم مضطرب وأوضاع عالمية متغيرة.
الاستقلال ليس شعارات ترفع كل عام، ولا أعلامًا تُعلق على الجدران ثم تُنسى. الاستقلال الحقيقي هو حين يشعر المواطن بالأمان في بلده، حين يحصل على حقوقه كاملة، ويؤدي واجباته بإخلاص. هو حين تُحترم الكفاءات، ويُصان الكادحون، وتُمنح الفرص لكل أبناء الوطن بعدالة.
إن استقلال الدول يُقاس بقدرتها على القرار الحر، وبقوة مؤسساتها، وبصوت شعوبها في رسم مستقبلهم. والأردن، على مدار تاريخه، واجه ظروفًا استثنائية من ضيق الموارد، وضغوط سياسية واقتصادية لا حصر لها، ومع ذلك، ظل صامدًا، متماسكًا، يمضي في بناء دولته الحديثة خطوة بعد خطوة، برغم كل الصعوبات.
واليوم، نحن أحوج ما نكون لإعادة تفعيل معاني الاستقلال في سلوكنا اليومي، وفي طريقة تفكيرنا، وفي تعاملنا مع التحديات. علينا أن نرتقي بفهمنا للاستقلال من كونه مناسبة احتفالية إلى كونه التزامًا يوميًا تجاه الوطن. أن نعلم أن حب الأردن لا يكون فقط بالهتاف، بل بالعمل الصادق، وبمكافحة الفساد، وباحترام القانون، وبالمشاركة في صناعة القرار، وبالدفاع عن كرامة المواطن، وبالمحافظة على موارد الوطن من العبث والإهمال.
في عالم تتفكك فيه الهويات، وتتعالى فيه أصوات الانقسام، يُثبت الأردنيون في كل حين أن وحدتهم الوطنية هي أعظم ما يملكون. لقد بُني هذا الوطن على قاعدة صلبة من التعددية والتعايش، واحتضن أبناؤه بعضهم بعضًا، رغم اختلاف الأصول والمنابت، تحت مظلة واحدة هي "الأردن أولًا".
إن وحدة الأردنيين ليست مجرد شعار، بل واقع نعيشه في مدارسنا، وفي شوارعنا، وفي مؤسساتنا. هي الثقة المتبادلة، والدم الذي اختلط في ميادين القتال، والفرح الذي نتقاسمه، والحزن الذي نواسي به بعضنا. وهي في هذه المرحلة تحديدًا، السلاح الأمضى في وجه كل من يحاول النيل من الأردن أو زرع الفتنة في جسده.
في عيد الاستقلال، نجدد التمسك بهذا الحصن المتين، ونعاهد أنفسنا أن لا نسمح لأصوات التحريض أو الطائفية أو الإقليمية أن تتسلل إلى نسيجنا الاجتماعي. فالوطن لا يُبنى بالحقد ولا بالفرقة، بل بالمحبة، والعدل، والتكاتف.
ما كان للاستقلال أن يتحقق، ولا أن يستمر، لولا سواعد أبناء الجيش العربي المصطفوي، الذين قدموا أرواحهم قرابين على مذبح الحرية، وسطروا بدمائهم أنصع صفحات المجد. هذا الجيش، الذي وُلد من رحم الثورة العربية الكبرى، وتربى على قيمها، هو أكثر من مؤسسة عسكرية، إنه عقيدة وطنية وهوية سيادية.
وفي كل ذكرى استقلال، نقف احترامًا لأرواح شهدائنا الأبرار، ونرفع القبعات لرجال القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، الذين لا ينامون كي ننام نحن بأمان. أولئك الذين يرابطون على الثغور، ويحرسون الحدود، ويحمون الجبهة الداخلية من كل خطر، والذين ساهموا كذلك في بناء الوطن في السلم كما في الحرب.
تحية لجيشنا الذي لا يعرف التهاون في الذود عن الأردن، وتحية لكل فرد فيه، من قائد إلى جندي، ممن جعلوا من الاستقلال حالة مستمرة من الحماية والبناء.
لا يمكن أن نحتفل بعيد الاستقلال دون أن يكون لفلسطين موقع القلب في المشهد. فالأردن، ومنذ تأسيسه، ظل الأقرب وجدانًا وقلبًا وسياسةً لأشقائه في فلسطين. لم يتأخر يومًا عن نصرتهم، ولم يتراجع يومًا عن الدفاع عن قضيتهم، في كل المحافل والميادين.
اليوم، وغزة تُذبح أمام أعين العالم بصمتٍ مشين، نرى الأردن، كما عهدناه، على العهد باقٍ، يسند الإخوة، ويحتضن الجرح، ويصرخ في وجه الظلم. وها هو جلالة الملك عبدالله الثاني، صوت العرب الوحيد تقريبًا في زمن التخاذل، يقف شامخًا مدافعًا عن القدس، وعن الحقوق الفلسطينية، دون مساومة أو تردد.
نعم، استقلال الأردن لم يكن يومًا انعزالًا، بل كان دائمًا رسالة تضامن، وموقف عزّ، ومشاركة في هموم الأمة. ولهذا، فإن بقاء الأردن قويًا، موحدًا، حرًا، هو ضمانة لفلسطين، وهو السند الذي لا يمكن الاستغناء عنه في معركة التحرير والكرامة.
الأردن اليوم يواجه تحديات متشابكة: اقتصادية ضاغطة، وتحولات إقليمية غير مستقرة، ومحاولات تشويه الوعي الوطني، فضلًا عن آمال الشباب التي تتهددها البطالة والظروف الصعبة. ومع ذلك، فإن الطريق إلى الأمام يبدأ بإعادة الإيمان بأن هذا الوطن يستحق منا كل جهد.
علينا أن نؤمن أن كرامتنا من كرامته، وأن قوتنا من قوته، وأن لا استقلال حقيقي إن لم نقضِ على الفساد، وننهض بالتعليم، ونؤمن للشباب فرص العمل، ونزرع فيهم الثقة بأنهم ليسوا عبئًا، بل قوة التغيير.
الاستقلال يبدأ من الفصل الدراسي، ومن المصنع، ومن الحقل، ومن المكتب، ومن البيت. يبدأ حين نحترم قيمة الوقت، ونخلص في أداء أعمالنا، ونحرص على المصلحة العامة، ونفكر بالأردن قبل أنفسنا.
في عيد الاستقلال، نرفع الأكف إلى السماء، شكرًا لله على هذا الوطن، ونسأله أن يحفظه، وأن يديم عليه نعم الأمن والأمان، وأن يبارك في قيادته الهاشمية الحكيمة، وفي جيشه وشعبه. ونجدد العهد أن نظل أمناء على الحلم، وأن نكون، كما أراد لنا الأوائل، أبناءً أوفياء، نُحب الوطن حبًا فاعلًا لا مجرد شعارات.
كل عام والأردن بخير... كل عام ونحن نكتب معًا، بفخر وإرادة، قصة وطنٍ لا ينكسر.