خمسة في كفن القلب .. حكاية أحمد وابنته إيلا في مجزرة الشاطئ

mainThumb
خمسة في كفن القلب.. حكاية أحمد وابنته إيلا في مجزرة الشاطئ

22-06-2025 09:25 AM

printIcon

أخبار اليوم - لم يكن أحمد صلاح يعلم أن خطواته الأخيرة في شوارع مخيم الشاطئ ستكون نحو الخلود، وأنه سيُزف شهيدًا هذه المرة لا وحده، بل برفقة طفلته الصغيرة إيلا، ذات الأعوام الثلاثة، التي كانت تلتصق به كلما دوّى صوت الطائرات في سماء غزة.

في مساء دامٍ قبل يومين، تحوّل مخيم الشاطئ إلى ما يشبه ساحة من الجمر، بعدما قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية نقطة تجمّع للمواطنين كانت مخصصة لشحن الهواتف المحمولة، وهي واحدة من نقاط قليلة يستخدمها الأهالي بسبب الانقطاع الشامل للكهرباء في القطاع منذ أشهر. تجمّع العشرات عند هذه النقطة علّهم يعيدون شيئًا من التواصل بالعالم، لكن الصاروخ الإسرائيلي كان أسرع من الشحن وأقوى من الكهرباء.

في تلك اللحظة، كان أحمد يحتضن طفلته إيلا، منتظرًا دورهما في شحن الهاتف، حين سقط الصاروخ. لم يصل إلى وجهته، ولم تعد إيلا إلى حضن والدتها.

في مستشفى الشفاء، كانت الأجساد تغطى بالأقمشة البيضاء. جسد أحمد إلى جانب جسد إيلا، ملامح الطفلة لا تزال نقية، وكأنها تغفو فقط. أما أحمد، فكان كعادته يحميها بجسده حتى اللحظة الأخيرة. صورة واحدة لوالد يحتضن طفلته شهيدةً كانت كافية لتُغرق غزة بالبكاء.

الحاج أبو حسن، والد الشهيد، وقف أمام الصحفيين بعينين دامعتين وصوت مخنوق بالحزن، وقال: "أحمد كان آخر أبنائي الذين بقوا لي... أربعة من أبنائي استُشهدوا في قصف منزلنا قبل الهدنة في يناير الماضي. كنت أتمسك به كمن يتمسك ببقايا قلبه، لكن الاحتلال لم يترك شيئًا. اليوم، التحق أحمد بإخوته، ليكتمل وجع القلب بخمسة شهداء من صُلبي".

وتابع بنبرة موجعة: "تلك المجزرة الأولى لم تخرج من مخيلتي، لا زلت أسمع صرخات أبنائي وهم تحت الركام... لكن مجزرة الشاطئ جاءت لتنكأ الجرح من جديد. الاحتلال لا يفرّق بين أحد... لا بين الأطفال ولا الشباب ولا النساء".

أما والدة أحمد، فكانت أكثر ثباتًا من الجميع، رغم الغصة التي ملأت صدرها. قالت بهدوء عميق لصحيفة "فلسطين": "ما عاد في عيني دموع، كلها نزلت على أبنائي الخمسة. أحمد كان روحي، سندي، آخر من تبقى، لكنه لحق بإخوته". وأضافت: "أنا وأولادي لسنا أغلى من شعبنا، صحيح أنهم غاليين على قلبي، لكن أرواحنا فداء لله وللوطن. ما نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون".

مكان المجزرة لم يكن موقعًا عسكريًا، ولا حتى قريبًا من أي هدف محتمل. مجرد ساحة يربط فيها الأهالي هواتفهم عبر خطوط تمديد مؤقتة لشحن البطاريات، وسط عتمة الكهرباء الكاملة التي تعيشها غزة منذ شهور. كان هناك أطفال، ونساء، وشبان، كلهم أرادوا فقط أن يسمعوا صوت أحبائهم، أن يطمئنوا على أقاربهم، أن يبقوا على قيد التواصل... لكن الاحتلال أطفأ كل شيء.

الطفلة إيلا، التي استشهدت بجوار والدها، لم تعرف معنى الحرب، لكنها أدركت الخوف. كانت تنام قرب والدها كل ليلة وتطلب منه أن "يطفئ السماء" عندما تشتعل بالصواريخ. وفي تلك الليلة، نامت نومتها الأخيرة، دون أن تصحو، قرب قلبه، كما أرادت دائمًا.

يقول أحد جيران العائلة لـ"فلسطين": "أحمد كان شابًا خلوقًا، محبوبًا من الجميع. منذ فقد إخوته الأربعة، وهو يتحمل عبء الأسرة. كان يحاول أن يزرع الحياة وسط الموت، لكنه اليوم أصبح من الراحلين".

جنازتهما كانت ثقيلة على القلب، خفيفة على الأرض، لأن الأجساد حين تكون طاهرة تُحمل بلا مقاومة. ارتفعت زغاريد الأمهات في محاولة لتجميل وداع لا يمكن تجميله، وترددت صيحات "الله أكبر" كأنها تحاول إقناع الحزن بأن للدماء مكانًا عند الله.

في غزة، كل القصص متشابهة، لكن قصة أحمد وإيلا كانت أعمق من الوجع؛ لأنها تحكي عن نهاية رجل كان الناجي الوحيد من مجزرة، فاستُهدف بعدها لا وحده، بل مع طفلته، في مكان لم يكن فيه سوى العتمة والانتظار.

اليوم، يجلس الحاج أبو حسن في ركن خيمته، يردد أسماء أبنائه الخمسة واحدًا تلو الآخر، كأنما يُحصي ضلوعه. لم يتبق له منهم أحد. فقط صور على الجدران، وذكريات في القلب، ودموع جفت.

تقول أم أحمد وهي تلمس صورة ابنها الشهيد: "ما ضاعوا... هم السابقون، ونحن اللاحقون. اللهم اجمعنا بهم في الجنة، حيث لا قصف ولا صواريخ ولا ألم".

هذه غزة، حيث يتساوى الطفل والشيخ في الاستهداف، وحيث يُكتب للأب أن يدفن أبناءه واحدًا تلو الآخر، دون أن يجد لحزنه نهاية. لكن رغم كل هذا، تبقى غزة، وتبقى العائلات، وتبقى الحكايات شاهدة على أن دماء الشهداء ستنبت يومًا ما حريةً.

 فلسطين أون لاين