أخبار اليوم - في قطاع غزة، حيث تتداخل المجاعة مع الحصار، لا تعني الدُقَّة مجرد خلطة بهارات، بل تمثل وجبة أساسية للمجوعين ومصدر نكهة يومية لا يُستغنى عنها.
ورغم شهرتها وانتقالها إلى مدن عربية أخرى، تبقى غزة المكان الوحيد في العالم الذي اخترع هذه الخلطة الفريدة وصنعها يدويًا، جاعلًا منها أيقونة في المطبخ الفلسطيني تُعرف اليوم باسم الدُقَّة الغَزِّيَّة.
لكن هذه الأكلة الشعبية، التي لطالما اعتُبرت رمزًا لـ"الفقر النبيل"، لم تنجُ من الحرب والحصار. فبعد مرور أكثر من عام ونصف على حرب الإبادة الإسرائيلية، تقلصت خيارات الغذاء إلى أدنى مستوياتها، وغابت الدُقَّة والزعتر عن رفوف الأسواق، أو ارتفعت أسعارهما بنحو 500%، فيما اضطرت النساء إلى ابتكار بدائل من مكونات متواضعة، فقط ليبقين على طعم الحياة.
"ما في شي نغمّسه"
تجلس الحاجة وداد القيشاوي (72 عامًا) أمام باب منزلها المتصدّع في حي الدرج شرقي مدينة غزة.
تقول لصحيفة "فلسطين": "ما في شي نغمّسه.. لا جبن، ولا لبن، ولا بيض، ولا مربى، حتى الدُقَّة شحّت من السوق، أما الزعتر فقد اختفى تمامًا".
وداد التي اعتادت صناعة الدُقَّة منذ زواجها قبل خمسين عامًا حيث ورثت طريقة صنعها عن والدتها، تتحدث بحرقة عن التحولات القاسية التي أصابت طعامها المفضل: "المكون الأساسي عندي القمح، وبزر البطيخ المحمص غير المملح، ومعاهم كزبرة يابسة، كمون، حمض ليمون، شطة ناشفة، ملح، وسماق.. كنت أحمصهم على فرن الغاز، وأرسلهم لمطحنة البهارات، وكان كيلو الدُقَّة يكلّفني 50 شيكل فقط".
وفي ظل شح القمح وباقي المكونات التقليدية، اتجهت نساء كثيرات إلى العدس الأحمر كبديل رئيسي.
زاهية حسنية، وهي نازحة قسرا من الشجاعية، تصف طريقتها في إعداد الدُقَّة: "كل شيء صرنا نصنعه من العدس: الخبز، والدُقَّة، وحتى القهوة. رغم أن سعره غالٍ، لكنه بيضل الأرخص مقارنة بالمكونات التانية".
تقوم زاهية بتحميص العدس الأحمر على نار الحطب، ثم تطحنه وتضيف له القليل من السماق، وحمض الليمون، والكزبرة الجافة، والملح. وتوضح: "كيلو العدس المحمص بيحتاج لأوقية صغيرة من البهارات حتى يعطي النكهة المطلوبة".
يسرى حمادة (60 عامًا)، من سكان حي الزيتون، تملك وصفة أخرى للدُقَّة البديلة، تقول: "أخلط كوب من المعكرونة، وكوب برغل، ونص كوب عدس أحمر، ونص كوب عدس بني، وشوية فريكة. أحمصهم على فرن الطين حتى يصير لونهم ذهبي غامق، وبعدين ببعتهم عالمطحنة".
يضيف بائع البهارات المقادير اللازمة من التوابل حسب المتاح. ورغم أن هذه الطريقة تؤمن دُقَّة لعدة أيام، إلا أن تكلفتها مرتفعة: "كيلو الدُقَّة بيكلفني 200 شيكل، بس بيكفيني لفترة، ومش دايمًا متوفر غير هيك".
أما عائشة راشد، من حي الشيخ رضوان، فقد لجأت لمكونات غير معتادة لصنع وجبة الدُقَّة، تقول: "لا يوجد قمح، لذا استخدمت الحمص اليابس بدلًا عنه، مع قليل من الفاصولياء الحمراء والبيضاء، وقليل من البازلاء اليابسة، ومعهم كيلو برغل".
بعد تحميصها جيدًا، تضيف الكمية المناسبة من البهارات. وتقول إن النكهة مختلفة، لكنها مقبولة وتسد الرمق، خاصة مع زيت الزيتون، حين يتوفر.
ما هي الدقة الغزية؟
هي مزيج تقليدي من البهارات والمكونات المجففة تُعدّ واحدة من أشهر الأكلات الشعبية في قطاع غزة، وتكاد تكون حكرًا على المطبخ الغزي من حيث الأصل والتقنية. تُستخدم عادة كوجبة خفيفة تُغمّس بزيت الزيتون، أو كإضافة على الخبز، وتُعرف بلونها المائل للحمرة أو الأخضر الداكن تبعًا لمكوناتها.
ويرجع أصل الدُقَّة الغَزِّيَّة إلى الأحياء القديمة في مدينة غزة، خاصة بين العائلات الفقيرة التي كانت تبحث عن مصدر غذاء بسيط، رخيص، قابل للتخزين، لا يفسد بسهولة، ولا يحتاج إلى طهي. ولهذا سُمّيت بـ"الدُقَّة"، من الفعل "دقّ"، نظرًا لطريقة إعدادها التي تعتمد على دق المكونات وتحميصها يدويًا.
تُسمى في بعض المناطق بـ"دُقَّة الفقراء"، وقد استخدمت تقليديًا في الصباح أو العشاء مع الخبز والزيت. مع مرور الزمن، أصبحت رمزًا للمطبخ الغزي، وانتشرت إلى مدن الضفة الغربية والدول العربية، حيث تُباع الآن في الأسواق تحت اسم "الدُقَّة الغَزِّيَّة"، نسبة إلى منشئها الأصلي: غزة.
كانت المكونات تُحمص يدويًا على نار هادئة، ثم تُدق في جرن حجري أو تُطحن في مطاحن البهارات. وارتبط إعدادها بالنساء المسنّات، اللواتي كنّ يتقنّ تحميصها وتوزيع النكهات بعناية خاصة.
وإلى جانب كونها طعامًا بسيطًا، أدّت الدُقَّة الغَزِّيَّة دورًا اجتماعيًا في تعزيز روح الاكتفاء الذاتي، والتكافل بين الجيران، حيث كانت النساء يتشاركن في صناعتها. كما كانت جزءًا من هدايا العروس في جهاز الزواج، وتُحفظ في أوعية فخارية أو زجاجية لأشهر.
فلسطين أون لاين