أخبار اليوم - بالقرب من مفترق الشعبية وسط مدينة غزة، كانت أم إبراهيم محيسن تسير بخطى متثاقلة، تتلفّت يمنة ويسرة بين بسطات الطحين القليلة، تبحث عن بارقة أمل في وجه أسعار فاقت قدرتها.
توقفت السيدة الأربعينية أمام أحد الباعة وسألت عن السعر، فجاءها الرد كصفعة: "60 شيكلًا للكيلو، يا حجة."
تجمدت للحظة، وهي تردد بذهول: "60 شيكلا الكيلو؟!"
نظرت إلى كيس الطحين وكأنه كنز بعيد المنال، ثم تمتمت بصوت مخنوق: "كيف بدي أطعمي أولادي؟ ما بقدر أشتري بهيك سعر."
تعيش أم إبراهيم مع أطفالها الأربعة في خيمة بلا أي مصدر دخل، بعدما تعطل زوجها عن العمل بفعل الحرب الإسرائيلية، وتحاول بشتى الطرق أن تؤمن ما يسد رمقهم.
تقول بحسرة لـ "فلسطين أون لاين": "أولادي ما بطلبوا شيء، بس بدهم رغيف خبز. مبارح أكلنا عدس بدون خبز، واليوم مش عارفة شو أطعميهم."
تشير إلى نفاد كل المواد الغذائية التي كانت تحتفظ بها في الخيمة.
أصبح الحصول على الطحين – الذي كان يُوزع مجانًا أو يُشترى بثمن زهيد – معركة يومية تخوضها آلاف العائلات وسط حصار مشدد ومجاعة تخنق البيوت بصمت.
الخبز بالقطعة
غير بعيد، وقفت أم حسين، وهي سيدة خمسينية، أمام إحدى بسطات الطحين تحدق في الميزان بحزن: "كنت أشتري كيس الطحين بـ20 شيكل، واليوم مش قادرة أشتري كيلو واحد."
وتتابع، وهي أم لستة أطفال: "حتى الخبز مش لاقيين نأكله، وصار حلم بعيد.. صرنا نقسم الخبز بالقطعة بين الأولاد، مش للشبع، بس عشان نضل عايشين."
تقول بصوت مرتجف: "أغلب الأيام أولادي بناموا جوعانين، ما في عندي غير العدس، والخضرا مش شايفينها من شهور، أسعارها نار. لما يتوفر معي شوية مصاري، بشتري طحين، وبعت كل مقتنيات البيت عشانه."
وتختم بحسرة: "لو في شعب تاني تعرّض للي إحنا فيه، كان انهار.. لا شغل، لا خبز، لا مساعدات.. تشريد وموت."
وفي السوق ذاته، كان أحمد عابد، وهو أب لخمسة أطفال، يتنقل بين البسطات يحمل ورقتين نقديتين من فئة 20 شيكلًا، إذ يقول "كيلو الطحين صار بـ60؟ يعني كيس الطحين بـ1500 شيكل؟! مش حرام؟ وهو أصلاً مساعدات!"
ويضيف: "حتى العائلات الميسورة ما عادوا قادرين يشتروا.. سمعنا عن شحنات طحين وصلت للمؤسسات، بس ما شفنا شيء منها."
ويطالب بوقف هذا "الجنون" في الأسعار الذي طال كل السلع.
الجوع أقسى من القصف
في زاوية السوق، كان الشاب محمود الخضري يحمل كيسًا صغيرًا لا يتجاوز نصف كيلو، اشتراه بـ30 شيكلًا، إذ يقول "هذا ما بكفي لخمس أرغفة، بس هو اللي قدرت أشتريه اليوم. ما عاد الهدف الشبع، بس نعيش يوم كمان."
الخضري، العاطل عن العمل منذ أشهر، يشير إلى أن أسرته كانت تعتمد على وجبات مجانية من تكية خيرية، لكنها توقفت نتيجة الحصار وإغلاق المعابر.
ويضيف "الحرب دمّرت البيوت، والجوع دمّر أجسادنا. صرنا بالكاد نوقف على رجلينا. الجوع أقسى من القصف، لأنه بيطاردك كل ساعة. والخبز صار حلم."
أما الحاج أبو عادل (65 عامًا) فدخل في جدال مع أحد الباعة قائلًا: "يعني أشتري طحين ولا دواء السكري؟! لو كل يوم كيلو طحين بدّي 1800 شيكل بالشهر، من وين أجيبهم؟!"
ثم قال بنبرة رجل أثقلته السنين: "طول عمري ما تخيلت إنه ندوّر على الخبز وما نلاقيه."
هذا الواقع يأتي في ظل تحذيرات أطلقتها "الأونروا" وبرنامج الأغذية العالمي، من خطر المجاعة في غزة بعد أن بلغ عدد من يتضورون جوعًا نصف مليون إنسان، وأصبح الوصول إلى كيس طحين مخاطرة حقيقية.
فلسطين أون لاين