أخبار اليوم - على المفرق الواصل بين نهاية شارع الجلاء وحي الصفطاوي شمال مدينة غزة، افترشت عشرات العائلات الأرصفة وجنبات الطرق، تحمل بعض الأمتعة والفُرُش، وتجر معها همًّا جديدًا من النزوح القسري داخل المدينة، فرضه جيش الاحتلال تحت وطأة القصف وتقدّم مباغت لإحدى الدبابات التي اقتربت من مفرق "أبو شرخ" ودوار الصفطاوي صباح أول أمس، وفتحت نيران رشاشاتها تجاه منازل وخيام الأهالي، بالتزامن مع إطلاق نار من مسيّرات (كواد كابتر) وأوامر بالإخلاء.
ترك النازحون أغراضهم ومنازلهم قرب "دوار الصفطاوي"، ونجوا بأرواحهم وأطفالهم، لكن المسيّرات لاحقتهم أثناء النزوح، ما أدى إلى استشهاد سبعة مواطنين خلال محاولتهم الفرار من الموت الذي لاحقهم في طريق البحث عن النجاة.
على امتداد شارع الصفطاوي، ولساعات طويلة، كان الطريق مكتظًا بحركة النازحين، معظمهم يحمل بعض الحقائب أو الصُرر على الأقدام، فيما كان آخرون يجرون عربات محملة بأغراضهم، إضافة إلى الحافلات، وعربات "التكتك" و"الكارو" التي نقلت الأهالي من منطقة الخطر إلى غرب ووسط مدينة غزة.
وبالرغم من النزوح والعدوان المتواصل على الأحياء الجنوبية والشمالية للمدينة، أكد الأهالي لصحيفة فلسطين رفضهم النزوح إلى جنوب القطاع، فاتجهت غالبيتهم نحو أقارب لهم في غرب المدينة، أو إلى الشوارع، أو افتراش الشريط الساحلي قرب ميناء غزة، رافضين تكرار تجربة النزوح المريرة التي عاشوها في الجنوب على مدار خمسة عشر شهرًا قبل عودتهم في يناير/ كانون الثاني الماضي.
منذ مارس/ آذار الماضي، يشن الاحتلال عدوانًا متواصلًا على الأحياء الشرقية للمدينة مثل الشجاعية والتفاح، ما أجبر العائلات فيها على النزوح. وامتد العدوان إلى جباليا البلد، ولاحقًا جباليا النزلة، ليصل اليوم إلى أطراف حي الصفطاوي وبئر النعجة شمالًا، إضافة إلى استهداف حي الزيتون والصبرة جنوب المدينة، وسط خشية الأهالي من حصار وتطويق غزة بالكامل.
كان أنس الأعرج يجرّ خاله المقعد على كرسي متحرك، وهو من ذوي الإعاقة الحركية ومصاب بالشلل منذ الولادة. ومع أنه لم يمشِ يومًا على قدميه، إلا أن الحرب زادته وجعًا بعد إصابته بقصف إسرائيلي أدى إلى بتر قدميه.
الأعرج وأخوته كانوا يحملون صُررًا صغيرة فيها بعض الملابس وما تمكنوا من حمله. يقول لـ فلسطين أون لاين: "كنا في البيت، وفجأة وجدنا الدبابة على الباب في منطقة الصفطاوي. خرجنا مسرعين ولم نستطع أخذ الطعام. لا نعلم إلى أين سنذهب، ولا مكان لنا سوى الشارع".
ثم يصرخ بمرارة: "على العالم أن يوقف هذه الحرب، فهذه المرة الثامنة التي ننزح فيها!".
افتراش الطرق
على أحد الأرصفة بشارع الصفطاوي، جلس عرفة الجرجاوي بجوار بعض الصُرر التي استطاع إخراجها من منزله. قال لـ فلسطين أون لاين بملامح يكسوها الألم وصوت مبحوح: "لا أستطيع عدّ مرات النزوح من كثرتها. في كل مرة كنت أعود إلى المنزل معتقدًا أن الاحتلال لن يعود بعد تدمير المنطقة، لكنه دائمًا يعود".
وأضاف بنبرة يغلفها الحزن: "جلست في الطريق وحدي مع بعض الأغراض، فيما بقيت زوجتي وأطفالي في البيت. حاولت إخراجهم لكنني حوصرت منذ الصباح تحت زخات رشاشات الدبابة لساعتين كاملتين. كنا نسمع المسيّرات تنادي بمكبرات الصوت، تمهلنا ساعات لإخلاء المنطقة، لكن حتى من حاولوا الإخلاء تعرضوا للقصف وكأن الاحتلال نصب فخًا للجميع".
ومثل كثيرين، لم يجد الجرجاوي مكانًا في غرب المدينة المكتظ بمئات الآلاف من النازحين. ومع اقتراب حلول المساء، وهو وقت تصعّد فيه قوات الاحتلال مجازرها، لم يتمكن من نقل بقية أغراضه.
أما هبة ياسين، فكانت تسير مع بناتها خالية الوفاض. ملامحها الغارقة في الخوف كانت أصدق من كلماتها وهي تقول: "لم نستطع حمل شيء، الاحتلال لم يمنحنا فرصة. يكفي نزوحًا وتشردًا... أين العالم؟".
نزوح جديد
قبل ذلك، عاشت ياسين تجربة النزوح جنوب قطاع غزة، متنقلة بين مدن ومناطق عدة حتى عادت مطلع العام الجاري مع عودة آلاف النازحين. لم تتخيل أن تعيش تجربة جديدة، وتقول إنها تأمل أن يكون النزوح مؤقتًا وأن تقود التطورات إلى هدنة تسمح لها بالعودة.
الحاجة أم تامر جمعة كانت تحمل على رأسها آنية فيها بعض الأغراض، ترافقها سيدتان. لم تستطع المسنة التي أثقلها العمر حمل أكثر من ذلك. تروي بصدمة ما حدث عند خيمتها قرب دوار الصفطاوي: "طوال الليل لم يتوقف تفجير الروبوتات المفخخة، وفجأة رأينا الدبابة تقترب وتطلق النار، ومعها المسيّرات كذلك".
وأضافت: "كان الأطفال يصرخون ويركضون، ترك الجميع كل شيء خلفه. بعض الناس تمكن لاحقًا من العودة وجلب أغراضه، لكننا لم نتمكن بسبب عدم توفر أجرة النقل. سنذهب الآن إلى مستشفى الرنتيسي لافتراش الشارع حتى نستطيع العودة".
محمد النجار، مع عائلته وأعمامه، نقلوا معظم أغراضهم لكنهم لم يجدوا مكانًا للإيواء، فافترشوا المفرق الواصل بين الصفطاوي وشارع الجلاء. يجلسون على الأرصفة مع أطفالهم ونسائهم وكبار السن، وبينهم جرحى لا يزالون يعانون إصابات خطيرة. وعلى مقربة منهم، دوّت أصوات رصاص مصدره مسيّرة إسرائيلية.
يقول النجار لـ "فلسطين أون لاين" وهو يجلس بين كومة من الأغراض: "ها نحن في الطريق ولا مكان ننزح إليه. طوال الحرب نتنقل من مخيم إيواء لآخر، ومن خيمة لأخرى. تعبنا". ثم يوجه نداءه: "على العالم أن يشعر بأهل غزة ويوقف هذه الحرب الدامية".
حولهم، كان الأطفال يجلسون في أحضان أمهاتهم، بينما ظلّت أصوات المسيّرات تقطع صمت الليل، مطلقة النار نحو منازل المدنيين.
فلسطين أون لاين