أ. د. أمجد الفاهوم
تعيش الساحة التربوية الأردنية حالة من الجدل المحتدم حول النظام الأكاديمي الجديد للتوجيهي المبني على التفريع المبكر للتخصصات، حيث يجد الطلبة أنفسهم أمام خيارات مصيرية في سن مبكرة، فيما تتصاعد المخاوف من أن يؤدي هذا المسار إلى تضييق آفاقهم المستقبلية بدلاً من توسيعها. فالطلبة الذين بالكاد بدأوا رحلة اكتشاف ذواتهم وميولهم، قد يُجبرون على اتخاذ قرار يحدد مسار حياتهم الجامعية والمهنية دون أن تتاح لهم الفرصة الكافية للتجربة والتأمل. هذا التوجس له ما يبرره؛ إذ تشير التجارب الدولية إلى أن التعليم الذي يفرض التخصص المبكر على الطالب قد يؤدي إلى تقييد حركته الفكرية والمهنية لاحقاً، ويحرم المجتمع من طاقات إبداعية قد تُكتشف في وقت لاحق لو أتيح له مرونة في الاختيار.
الأساتذة والتربويون يرون أن النظام القديم، على الرغم من ملاحظاته، كان أكثر توازناً وعدلاً، حيث وفر للطالب مساحة تجمع بين العلوم والآداب، وأعطته فرصة لاختيار مساره الجامعي بتروٍ بعد أن يكوّن خبرة أوسع بقدراته وميوله. فالمعادلة التي كان يحققها النظام السابق بين الاتجاه العلمي والأدبي لم تكن مجرد تقسيم إداري، بل كانت ضمانة حقيقية للتنوع المعرفي، وبناء شخصية متوازنة قادرة على التكيف مع متغيرات المستقبل. إنّ اختزال مسار الطالب منذ وقت مبكر في خيارات محدودة قد يبدو خطوة نحو التخصصية، لكنه في الحقيقة يختزل إمكاناته ويعجّل بقرارات غير ناضجة قد يندم عليها لاحقاً.
أما الحديث عن ربط النظام الجديد باحتياجات سوق العمل، فيبقى طرحاً يحتاج إلى مراجعة متأنية. فالسوق ذاته يتغير بشكل سريع، والتخصصات التي تبدو مطلوبة اليوم قد تفقد قيمتها غداً. لذا، فإن بناء قاعدة معرفية واسعة، كما أتاحها النظام القديم، يمنح الطالب أدوات أكثر مرونة للتكيف مع تحولات السوق، بدلاً من حبسه في مسار ضيق قد لا ينسجم مع حاجاته أو حاجات وطنه بعد سنوات قليلة.
النظام الجديد قد يحمل بعض الإيجابيات من حيث محاولة تقليل التشتت، لكن كلفته البيداغوجية والنفسية تبدو أكبر بكثير من مكاسبه، لأنه يتعامل مع الطالب كمجرد مورد لسوق العمل لا كإنسان في طور التشكل والاكتشاف. إنّ الهدف الأسمى من التعليم ليس فقط تزويد الطالب بمسار وظيفي، بل منحه فرصاً واسعة لاكتشاف ذاته وتنمية مهاراته الفكرية والإنسانية.
من هنا، تبدو الأفضلية واضحة للنظام القديم الذي حافظ على التوازن وأتاح للطلبة فرصة إعادة النظر بخياراتهم في أكثر من مرحلة، دون أن يقيدهم بمسارات مغلقة. الإصلاح الحقيقي لا يكون بتفريع مبكر يحاصر الطاقات، بل بتطوير المناهج وأساليب التعليم، وتعزيز التفكير النقدي والإبداعي، وتوفير بيئة حاضنة للطالب تجعله قادراً على صنع قراره عن وعي وتجربة.
يبقى الأساس في أي نظام تعليمي هو الطالب نفسه: مستقبله، خياراته، ونفسيته. وأي إصلاح لا يأخذ في الحسبان مخاوفه وملاحظات أساتذته، ولا يوفر له مساحة آمنة للتجربة والتدرج، قد يتحوّل من حلّ إلى عبء.
إنّ بناء نظام توجيهي ناجح لا يكون فقط عبر تغيير الأسماء أو الهياكل، بل عبر حوار وطني صادق يجمع الطلبة والأهالي والمعلمين وصانعي القرار، وصولاً إلى صيغة تحقق التوازن بين متطلبات المستقبل وحاجات الطالب الحقيقية. فالحوار الوطني الذي يضع الطالب في مركز الاهتمام، ويوازن بين حاجاته النفسية والمعرفية ومتطلبات الدولة والمجتمع هو النظام الملائم لعلم المستقبل. فالمسألة ليست مجرد امتحان نهائي، بل صناعة إنسان حرّ التفكير، واسع الخيارات، قادر على أن يواجه تحديات الغد بعقل منفتح وروح متجددة.