اخبار اليوم - في خيمة صغيرة نُصبت على أطراف مخيم في دير البلح وسط قطاع غزة، يجلس ماهر الأستاذ (62 عامًا) متكئًا على وسادة بالية، فيما يستند بجسده المنهك إلى عكاز خشبي بالكاد يساعده على التوازن.
لم يفقد الرجل قدمه اليسرى فقط، بل فقد معها سنوات من العمل والحركة والكرامة. أما قدمه اليمنى، فما تبقى منها لم يعد يقوى على حمله بسبب انسداد الشرايين وضعفها.
ماهر، القادم من بيت لاهيا شمال القطاع، عاش رحلة طويلة مع الألم منذ عام 2015، حين اضطر الأطباء إلى بتر قدمه اليسرى بعد إصابته بجلطة سببت غرغرينا قاتلة. يومها، ظن أنه بلغ قاع المعاناة، لكن سنوات الحصار والحروب المتكررة جاءت لتؤكد له أن الألم في غزة لا قاع له.
بداية الحكاية
يستعيد ماهر ذكريات اليوم الذي أبلغه فيه الأطباء بالقرار: "قالوا لي: لا خيار إلا البتر، حياتك في خطر. وافقت وأنا أرتجف، شعرت أنني أُنتزع من داخلي."
لم يكن البتر نهاية الجرح، بل بداية رحلة جديدة من الإعاقة والاعتماد على الآخرين.
ضعف قدمه اليمنى بسبب انسداد الشرايين جعله مقعدًا معظم الوقت، عاجزًا عن السير لمسافات قصيرة إلا بصعوبة شديدة.
قبل إصابته، كان ماهر عاملاً في الزراعة، يزرع أرضه الصغيرة بعرق جبينه ليؤمّن قوت أسرته الكبيرة المكونة من ثمانية أفراد. أما اليوم، فقد تحولت الأرض إلى ذكرى بعيدة، ولم يعد بإمكانه الإمساك بالمحراث أو السير بين أشجار الزيتون.
نزوح متكرر
منذ اندلاع الحرب الأخيرة، هُجّر ماهر وعائلته مرارًا. دُمّر بيتهم في بيت لاهيا بالكامل، ولم يجدوا مأوى سوى المدارس والمخيمات المؤقتة. يتحدث بصوت مرتجف: "نزحنا أكثر من سبع مرات، وكل مرة نترك ما تبقى من متاعنا خلفنا. أبنائي يسحبونني على بطانية أو يحملونني على عربة يدوية لأنني لا أستطيع السير."
تلك الرحلات تركت في قلبه جرحًا أعمق من البتر نفسه: "كنت أشعر أنني عبء ثقيل على عائلتي. كل نزوح كان يعني إذلالًا جديدًا لي. في آخر مرة اضطر أحفادي الصغار لدفع عربة صدئة كي ينقلوني من المدرسة المهدمة إلى المخيم."
جسد منهك وعلاج مفقود
مع مرور السنوات، ازدادت حالته الصحية تعقيدًا. انسداد الشرايين يسبب له آلامًا حادة وتورمًا مستمرًا في قدمه المتبقية، بينما الأدوية التي يحتاجها باتت شبه معدومة بسبب الحصار.
يصف وضعه قائلًا: "أحيانًا أضمد جرحي بقطع قماش قديمة أغسلها بالماء فقط. لا توجد ضمادات ولا مضادات حيوية. الألم لا يتركني ليلًا ولا نهارًا."
وإلى جانب الألم الجسدي، يعيش ماهر صراعًا نفسيًا مريرًا. يقول بحزن: "الأصعب أن تنظر في عيون أولادك وهم يرونك عاجزًا. حفيدي سألني: جدي، هل ستعود قدمك؟ لم أعرف ماذا أجيب… فقط بكيت."
فقر يطارد العائلة
لم تعد أسرة ماهر تجد مصدر دخل ثابت منذ بتر ساقه. المساعدات الإغاثية تصل متقطعة ولا تكفي سوى لأيام قليلة. كثيرًا ما ينامون بلا طعام، بينما يضطر أطفاله وأحفاده للوقوف في طوابير طويلة للحصول على رغيف خبز أو بضع علب طعام.
أما التعليم، فقد أصبح حلمًا بعيدًا لأحفاده الذين حُرموا من مدارسهم منذ أكثر من عام ونصف بسبب النزوح المستمر وتدمير المدارس. يعلق بمرارة: "كنت أريد أن أرى أحفادي يتعلمون… اليوم أراهم يكبرون في الخيام بلا مستقبل."
صرخة يائسة
وسط هذا الركام من الألم، يختصر ماهر معاناته بكلمات موجعة: "لا أطلب رفاهية، فقط طرفًا صناعيًا لأتمكن من الحركة، ودواءً لجرحي، وسقفًا آمنًا لعائلتي. الاحتلال سرق مني بيتي وقدمي وعملي… لم يترك لي شيئًا."
قصة ماهر لا تقف عند حدود معاناته الفردية، بل هي انعكاس لآلاف الجرحى والمقعدين في غزة، الذين يعيشون بلا علاج ولا أطراف صناعية، محاصرين في خيام باردة، ينتظرون بقايا مساعدة إنسانية لا تفي بأبسط حقوقهم.
المصدر / فلسطين أون لاين