أخبار اليوم- لا شيء يشغل بال الإسرائيليين هذه الأيام أكثر من مصير دولتهم بعد الحرب عموما، وبعد قرار مجلس الأمن الدولي بتبني خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي تفتح طريقا، ولو ضيقا، نحو شكل من أشكال الدولة الفلسطينية.
صراع داخلي على لجنة التحقيق بعد 7 أكتوبر
ويتمحور الانشغال بالمصير أساسا حول ما بات يعرف بالسجال حول تشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاها من إدارة فاشلة، في نظر البعض، وناجحة في نظر آخرين، للحرب وما آلت إليه.
ومنذ الأيام الأولى للحرب، طفت على السطح مطالب سياسية وشعبية وقانونية وحتى عسكرية، تطالب بتشكيل لجنة تحقيق رسمية للوقوف على أسباب ما جرى وتجنب تكرار الأخطاء التي قادت إلى ذلك.
وكان جليا موقف رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو- المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية- المعارض لتشكيل لجنة تحقيق رسمية.
وقد برر هو وأنصاره هذه المعارضة بأنه لا ينبغي إدارة تحقيق في زمن الحرب، وأنه يمكن التحقيق بعد أن ينجز الجيش أهداف الحرب، وبطريقة تقررها الحكومة.
وواجه هذا الموقف معارضة شديدة ليس فقط من جانب المعارضين لحكومة نتنياهو، وإنما أيضا من بعض مكونات الائتلاف التي رأت وجوب تحمل المسؤولية.
وبدا سخف الربط بين التحقيق وإنهاء الحرب في مطالبة الحكومة ذاتها للجيش بإجراء تحقيقات في أسباب الفشل العسكري والأمني، وهي تحقيقات أنجزت أثناء الحرب، وقادت إلى إقالات واستقالات في صفوف القيادة العليا للجيش والاستخبارات.
لجنة حكومية بدلاً من لجنة رسمية… خطوة تثير الغضب
وطبيعي أنه بعد إعلان قبول إسرائيل خطةَ ترامب لوقف إطلاق النار، وإعلان الرئيس الأميركي انتهاء الحرب، أن تتزايد الضغوط على نتنياهو وحكومته لإقرار تشكيل لجنة تحقيق رسمية. غير أن نتنياهو وحكومته، الذين يتحملون، في نظر أغلبية الجمهور الإسرائيلي- وفق استطلاعات الرأي- المسؤولية، عمدوا إلى الإصرار على عدم تشكيل لجنة رسمية، وأقروا قبل أيام تشكيل لجنة تحقيق حكومية.
وثمة فارق هائل بين اللجنتين، حيث إن القانون الإسرائيلي يحدد شكل ومهام واستقلالية لجنة التحقيق الرسمية، ويوكل أمرها بشكل أساسي إلى المحكمة العليا وقضاتها، في حين أن اللجنة الحكومية تشكلها الحكومة وفق رؤيتها.
والواقع أن قرار تشكيل لجنة تحقيق حكومية لم يأتِ أيضا عفويا من جانب حكومة نتنياهو، بل كان استجابة لما يمكن اعتباره إنذارا من جانب المحكمة العليا، التي نظرت خلال العامين الأخيرين في عدة التماسات بشأن تشكيل لجنة تحقيق رسمية، إذ طلبت المحكمة العليا من الحكومة، في الأسبوع الفائت، تقديم تقرير لها بشأن هذه المسألة خلال 30 يوما.
وبعد القرار الأوّلي بشأن تشكيل لجنة التحقيق، أعلن سكرتير الحكومة، يوسي فوكس، عن تشكيل الفريق الذي سيرفع إلى الحكومة خلال 45 يوما توصية بشأن تفويض لجنة التحقيق غير الحكومية في أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، وما ستحقق فيه، وفترات عملها.
وبحسب المعلن، سيرأس وزير العدل، ياريف ليفين، اللجنة الوزارية التي ستحدد التفويض. وستضم اللجنة: وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، والوزير بوزارة المالية والمسؤول عن إعادة إعمار الشمال والجنوب زئيف إلكين، ووزير الزراعة والأمن الغذائي آفي ديختر، ووزيرة الاستخبارات جيلا جمليئيل، ووزيرة الاستيطان والبعثات الوطنية أوريت ستروك، ووزير شؤون الشتات عميحاي شيكلي، ووزير التراث عميحاي إلياهو- الذين صدرت عنهم سلسلة من التصريحات المثيرة للجدل طوال الحرب، بما في ذلك "محو غزة من الوجود"، و"احتمال" إلقاء قنبلة ذرية عليها، و"عدم التعامل مع الرهائن إلا بعد تحقيق النصر".
وواضح من تشكيل فريق التفويض أن الغلبة هي لليمين الأشد تطرفا في حكومة نتنياهو، ما يظهر الوجهة التي تتطلع إليها. ومن الجائز أنها نوع من التعويض لهذا اليمين، الذي خسر في هذه الحرب هدفي التهجير والضم، وربما أيضا هدف منع إقامة دولة فلسطينية ألمحت إليها خطة ترامب، التي أُقرت أيضا في مجلس الأمن الدولي.
وبمعنى من المعاني، فإن لجنة التحقيق الحكومية المقرة يوم الاثنين الفائت، مغرضة، وترمي إلى تبيان أن اليمين المتطرف لا يزال يمسك بأطراف اللعبة، وأن بوسعه إدارتها ضد التيار الجارف في الحلبتين؛ الداخلية، والعالمية.
ومن المناقشات التي سبقت إقرار حكومة نتنياهو تشكيل لجنة تحقيق حكومية وتحديد تفويضها، يظهر الفارق الكبير بين ما كان يمكن أن ينال إجماعا في الحلبة السياسية، وما قاد فعلا إلى إبراز الخلاف وتعميقه فيها.
وليس صدفة أنه، ما إن تم إعلان القرار بتشكيل لجنة تحقيق حكومية، حتى بادر زعيما أكبر حزبي معارضة، يائير لبيد وأفيغدور ليبرمان، إلى إعلان مقاطعتهما هذه اللجنة ورفضهما الإدلاء بشهادتيهما أمامها.
كما أن ترؤس طاقم التفويض الوزاري من جانب الوزير ليفين- الذي اشتهر بأنه رأس حربة "الانقلاب القضائي" الذي كرس الانقسام الواسع، وكان في نظر كثيرين من أسباب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول- يضفي على المشهد طابعا خاصا.
ولم يقنع المعارضة تشكيل ما وصفته الحكومة بـ"لجنة تحقيق مستقلة تتمتع بصلاحيات تحقيق كاملة، ويعكس تشكيلها إجماعا شعبيا واسعا قدر الإمكان".
وثمة اعتقاد واسع بأن نتنياهو وحكومته يسعون، في نهاية المطاف، إلى سن قانون لجنة تحقيق حكومية خاصة في الكنيست. وقال وزير الإعلام، شلومو كاري، خلال النقاش، إنه ينبغي السماح للكنيست بمعالجة هذه القضية. ورد الوزراء بأن المعارضة ستعترض، فرد نتنياهو: "إذن عليهم الاعتراض. نحن نتحدث عن إجماع شعبي واسع. حتى في التشريع، يمكن أن يكون هناك تقصير قاطع إذا لم نحرز تقدما".
وكما سلف، أعربت المعارضة عن معارضتها تشكيل لجنة تحقيق حكومية، وصرح زعيمها، يائير لبيد، بأن "الحكومة تبذل قصارى جهدها للتهرب من الحقيقة والتنصل من المسؤولية"، أما رئيس الحزب الديمقراطي، يائير غولان، فقال إن "لجنة تحقيق حكومية ستحقق في أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول. هذا وعد"، ووصف غادي آيزنكوت، رئيس حركة "ياشار"، اللجنة بأنها "لجنة التستر والتآمر".
وقالت حركة "أحرار في بلادنا"، التي تسهم في تنظيم الاحتجاجات الشعبية ضد الحكومة، ردا على قرار تعيين ليفين رئيسا لفريق تعيين اللجنة: "ياريف ليفين وهوسه الجنوني بالانقلاب القضائي، إلى جانب رئيس وزراء متهم بجرائم، هما من أديا إلى مجزرة 7 أكتوبر/تشرين الأول. سوء الإدارة، والمفهوم التدميري، والهوس بتدمير النظام القضائي الذي مزق الشعب، أدت كلها إلى مجزرة 7 أكتوبر/تشرين الأول. من يدان لا يمكنه التعيين!".
كما أن مجلسا يمثل ثكالى الحرب أعلن: "في هذه الحالة، لا يكتفي القط بالثروة، بل يستمتع بها ويضحك على حساب العائلات الثكلى ومستقبل دولة إسرائيل بأكملها. فبدلا من التدقيق والتحقيق والتصحيح، تختار الحكومة الإسرائيلية مرارا وتكرارا مواصلة التستر والإهمال. وبدلا من النضال من أجل مستقبل دولة إسرائيل، تحارب الحكومة الإسرائيلية العائلات الثكلى".
وأضاف: "ثمانية وزراء، كانوا جزءا من الحكومة التي تتحمل المسؤولية المباشرة عن أكبر كارثة في تاريخ دولة إسرائيل، هم من سيحددون ولاية التحقيق، ومن ثم تحديد المحققين والاستنتاجات. قائمة الوزراء التي نشرت، إلى جانب وزراء الحكومة الآخرين، ورئيس الوزراء، وجميع كبار المسؤولين في مختلف الأجهزة، ليست قائمة "رعاة" لجنة التحقيق، بل قائمة أولئك الذين ستحقق معهم لجنة التحقيق الحكومية التي سيتم تشكيلها".
تقارير الجيش والشاباك تكشف عمق الفشل الأمني
وقد توجهت الأنظار بقوة إلى حكومة نتنياهو وموقفها من لجنة التحقيق، أيضا بعد نشر نتائج تحقيقات هامة جرت في كل من الجيش، والشاباك، ومكتب المراقب العام للدولة، ماتنياهو إنجلمان، حول الفشل الإستراتيجي يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وحسب تقرير المراقب العام للدولة، الذي نُشر قبل أيام، فإن نتنياهو لم يفِ بالتزاماته بإعداد مفهوم واضح للأمن القومي. وأشار إلى وجود فشل متواصل على مر السنين؛ بسبب عدم قيام المستوى السياسي بمسؤوليته في ضمان جاهزية دولة إسرائيل للتحديات الأمنية المتغيرة، استنادا إلى مفهوم منهجي ومحدث ومعتمد رسميا للأمن القومي.
وأشار تقرير المراقب العام للدولة- الذي كان بعنوان؛ "غياب مفهوم الأمن القومي وأثره على العمليات المركزية على المستوى السياسي وفي الجيش الإسرائيلي"، وبالإضافة إلى انتقاده نتنياهو- إلى أن رؤساء مجلس الأمن القومي، الذين تولوا مناصبهم منذ عام 2008، وهو العام الذي سن فيه قانون مجلس الأمن القومي، لم يعرضوا مفهوما أمنيا محدثا على المجلس الوزاري السياسي الأمني لمناقشته واتخاذ القرارات بشأنه، "وبالتالي، لم يؤدِ مجلس الأمن القومي دوره في هذه القضية".
وكان اللواء المتقاعد، سامي ترجمان، قد ترأس لجنة عسكرية ضمت 14 من كبار الضباط السابقين، أعدت تقريرا عرف بـ"أم التحقيقات في فشل السابع من أكتوبر/تشرين الأول"، وأشار إلى أنه لا خلاف على أن الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام (الشاباك) فشلا فشلًا ذريعًا، وأن أجهزة الأمن والإنقاذ لم تكن مستعدة بما يكفي، وأن القادة ارتكبوا أخطاء في اتخاذ القرارات، وأن ما جرى ليس خطأ فرديا، أو فشلا في فهم ما حدث في الليلة التي سبقت الهجوم، بل هو فشل كامل وواسع وعميق، يتمحور حول فشل الجيش وجهاز الأمن العام (الشاباك).
ووفق ما نشره المراسل العسكري لصحيفة "معاريف" عن التقرير، فإن الجيش الإسرائيلي، تحت رعاية القيادة السياسية، كان معطلا ومشلولا، ولم يعرف كيف يتعامل مع حقيقة تحول حماس من منظمة إرهابية إلى جيش إرهابي.
لم يتعامل مع المعلومات المتعلقة بخطة "أسوار أريحا"، ولم يعرف كيف يتعامل مع الأصوات المختلفة التي ظهرت داخل النظام، مثل أصوات المراقبين والمعارضة داخل المخابرات العسكرية. لم يعرف الجيش الإسرائيلي كيف يتعامل مع الوضع الأمني المتأزم الذي أقامه حزب الله في لبنان في أغسطس/آب 2023.
ورغم أن درة تاج ما تدعيه إسرائيل من نجاح في الحرب يعود لسلاح الجو، فإن تقرير لجنة ترجمان أشار إلى فشل سلاح الجو في بناء رد فعل للدفاع عن سماء البلاد على ارتفاعات قريبة من الأرض، وفشل سلاح البحرية في الدفاع عن السواحل في بداية الحرب، وذلك لعدم إجرائه عمليات تقييم دورية للوضع خلال ليلة 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولم يكن الاستعداد الفعلي للدفاع عن المواقع الإستراتيجية في المياه الاقتصادية متناسبا مع التهديد، مما زاد من المخاطر.