الأستاذ الدكتور فراس الزيود – جامعة مؤتة
مهرجان الزيتون الوطني الـ25 قطعة فسيفساء أردنية تجسّد الزراعة والثقافة والتاريخ، فلا تكاد تخلو طاولة من زيت الزيتون وزيته ومنتجات النشميات الريفيات. وعندما أمشي بجانب المخبوزات، تستوقفني رائحة أمي، وأستحضر تاريخها الحاضر، وأرى الصفقات التجارية تُنسج بهدوء بين صغار المزارعين والمرأة الريفية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد المرأة الريفية المنتِجة للمخبوزات والكعك تتشابك مع مزارع التمور ومنتج الزيت لتأمين احتياجاتها الأساسية من حيث الجودة والسعر، كما يتجلى التشبيك بين أصحاب الحرف اليدوية ومزارعي الزيتون للاستفادة من الأغصان الناتجة عن التطعيم في أعمالهم الحرفية.
هذا المشهد اليومي لم يعد حالة عابرة، بل تحوّل إلى نموذج حيّ لمنظومة تشبيك اقتصادي واجتماعي متكاملة، تجمع بين المزارعين، والمرأة الريفية، وأصحاب الحرف، والتجار، والمؤسسات الداعمة، في بيئة واحدة تكرّس الشراكة بدل التنافس، والتكامل بدل العزلة.
فالمزارع لم يعد يقدّم منتجه بوصفه مادة خام فقط، بل أصبح جزءًا من سلسلة قيمة تبدأ من الحقل، وتنتقل إلى يد المرأة الريفية في التصنيع، ثم إلى الحِرَفي في تحويل مخلفات الإنتاج إلى أدوات فنية، وصولًا إلى التاجر والمستهلك في حلقة اقتصادية مترابطة. هذا التشبيك خلق حالة من الاعتماد المتبادل، حيث يستفيد كل طرف من الآخر، ضمن معادلة تقوم على الجودة، والسعر العادل، والاستدامة.
وتبرز المرأة الريفية في قلب هذه المنظومة بصفتها لاعبًا اقتصاديًا رئيسيًا، لا مجرد عنصر مساعد، إذ أسهم المهرجان في توسيع شبكاتها التسويقية، وربطها المباشر بالمزارعين والموردين والجهات الداعمة، ما ساعدها على تحسين جودة منتجاتها، وتطوير أساليب العرض والتغليف، ورفع قدرتها التنافسية في السوق المحلي.
ويتجسّد التشبيك أيضًا في العلاقة بين السيدات المنتجـات للجميد البلدي والسمن العربي، وبين صاحبات المخابز الريفية ومنتجات المعجنات الشعبية. فالجميد لم يعد منتجًا معروضًا فقط، بل تحوّل إلى مكوّن أساسي في الوجبات التراثية التي تُحضَّر وتُقدَّم داخل المهرجان، بينما يدخل السمن البلدي في صناعة الكعك والمعمول والفطائر، ليمنحها النكهة الأصيلة والجودة العالية. هذا التكامل فتح أسواقًا جديدة للسيدات المنتجـات، ووفّر للمخبوزات مواد أولية طبيعية موثوقة وبأسعار عادلة.
ولا يقلّ التشبيك أهمية بين مزارعي السماق والزعتر من جهة، وبين السيدات العاملات في إعداد المخبوزات من جهة أخرى. فالزعتر البلدي يشكّل روح المناقيش والفطائر الريفية، والسماق بات مكوّنًا أساسيًا في نكهات العديد من المخبوزات الشعبية، ما خلق طلبًا متزايدًا على هذه المحاصيل العطرية، ودفع المزارعين إلى رفع جودة الإنتاج وتحسين أساليب التجفيف والتعبئة والتسويق.
كما أسهم التشبيك بين أصحاب الحرف اليدوية ومزارعي الزيتون في تحويل بقايا التقليم والأغصان إلى منتجات فنية ذات قيمة جمالية واقتصادية، تعكس الهوية البيئية والتراثية، وتدعم مفهوم الاقتصاد الدائري القائم على تقليل الهدر وتعظيم الاستفادة من الموارد.
ولم يكن هذا التشبيك ليكتمل دون الدور المحوري للمؤسسات الوطنية، وعلى رأسها وزارة الزراعة والمركز الوطني للبحوث الزراعية، اللذين شكّلا حلقة وصل علمية وتنظيمية بين جميع أطراف العملية الإنتاجية، عبر الفحوصات والإرشاد والدعم الفني، بما عزّز الثقة بالمنتج ورفع مستوى الجودة ورسّخ ثقافة الإنتاج الآمن والمستدام.
إن مهرجان الزيتون الوطني، في واقعه اليوم، لم يعد مجرد فعالية موسمية لبيع زيت الزيتون ومشتقاته، بل تحوّل إلى منصة وطنية حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تُبنى فيها الشراكات، وتُدعَم فيها المرأة الريفية، ويُسانَد فيها صغار المزارعين، وتُعزَّز فيها سلاسل الإنتاج المحلية، ليغدو بذلك نموذجًا وطنيًا يجسّد معنى التنمية الشاملة القائمة على التكامل، والشراكة، والهوية.