اخبار اليوم - في كل صباح، تستيقظ منار أبو وردة قبل أن يفتح الضوء خيوطه الأولى في سماء غزة، تنظر إلى طفليها ميرا وسراج وتتحسس وجهيهما لتطمئن أنهما ما زالا يتنفسان تنفسًا طبيعيًا، فتقول بصوت خافت متعب: "بنـام قلقانة على أولادي الاثنين… كل يوم بخاف يكون آخر يوم فيهم".
لم يعد الصباح بالنسبة لمنار بداية يوم جديد، بل اختبار نجاة يعيشه طفلان يطاردان أنفاسهما في سباق مع مرض لا ينتظر، وأدوية غير موجودة، ومعبر مغلق يقف بينهما وبين فرصة علاج قد تنقذ حياتهما.
بين الخوف والأمل، تحاول الأم أن تبتسم لطفليها، رغم أنها تعرف أن أي نوبة تعب قد تعيدهما إلى المستشفى. ومع كل زيارة، يصبح واضحاً أن غزة لم تعد مكاناً يمكن لمرضى الكلى من الأطفال أن يعيشوا فيه بأمان… فالدواء مفقود، والتحاليل نادرة، والوقت يضيق.
منذ ولادتها، تعاني ميرا مرضًا في الكلى، لكن حالتها تفاقمت أكثر بعد حرب الإبادة في قطاع غزة بسبب سوء التغذية الحاد وفقدان الأدوية الأساسية. باتت تدخل المستشفى أسبوعياً أو كل أسبوعين، وتستلقي على سرير الطوارئ لساعات طويلة بينما تبحث العائلة عن جرعة بوتاسيوم غير موجودة في غزة منذ شهور.
الأطباء شخّصوا حالة ميرا بمتلازمة جسدية معقدة: وهي نقص حاد في أملاح الجسم الأساسية—البوتاسيوم والصوديوم والكالسيوم والمغنيسيوم—إضافة إلى انخفاض حاد في مستوى الدم قد يصل إلى "5" ما يستدعي نقل وحدات دم متكررة، حسبما تروي منار لمراسل صحيفة "فلسطين". ومع انهيار النظام الصحي في القطاع، لم تعد التحاليل الأساسية متوفرة في المستشفيات، ما يجعل متابعة التطورات الخطيرة للحالة شبه مستحيل.
تقول الأم: "أولادي لازم يأخدوا العلاج يومياً، وعدم توفره يعني الموت… زي مريض السكري أو الضغط، لو قعدوا يومين بدون علاج تتدهور حالتهم وبتوجه فيه للمستشفى".
سراج، الذي يبلغ من عمره أحد عشر عاماً، يعاني المرض ذاته؛ التشنجات، الصداع، الإرهاق، والإسهال المزمن. خرج من المستشفى قبل يومين فقط، وما زال جسده الهزيل يحاول أن يقاوم بقايا ما تبقى من طفولة مسلوبة.
تعيش عائلة أبو وردة المكوّنة من سبعة أفراد —ثلاثة أولاد وبنتين والأم والأب— وتقطن في جباليا النزلة شمالي مدينة غزة، في ظروف معيشية شديدة القسوة. العائلة نزحت مرتين إلى جنوب القطاع خلال الحرب، وفقدت منزلها خلال العملية العسكرية للاحتلال في مدينة غزة، واضطرت للعودة إلى الشمال لتقيم في دار إيجار لا يملكون ثمنه بشكل ثابت.
ومع أن الطفلين بحاجة إلى نظام غذائي غني بالخضروات والفواكه واللحوم، إلا أن الظروف الاقتصادية تجعل الأمر شبه مستحيل. تقول منار بصوت مُتعب: "مش دايماً بنقدر نوفر لهم أكلهم، الوضع الاقتصادي صعب… وبنحاول قد ما نقدر".
وللأسرة أيضاً طفلان آخران يعانيان من ضعف شديد في الرؤية "فقدان بصر جزئي"، ما يزيد العبء النفسي والمادي على الوالدين.
قبل شهر كامل، حصلت العائلة على تحويلة علاج عاجلة إلى خارج غزة؛ تحويلة لاستكمال العلاج الضروري الذي لا يمكن تقديمه في مستشفيات القطاع المنهكة. إلا أن التحويلة تحولت إلى مجرد ورقة بلا قيمة ما دام معبر رفح مغلقاً.
وتحكي منار: "التحويلة موجودة من شهر… وما حدا تواصل معنا، لا الصحة ولا منظمة الصحة. كل فترة نتوجه لمستشفى الرنتيسي للأطفال بسبب تردي الحالة الصحية لأطفالي، والتحاليل الخاصة فيهم غير متوفرة".
وتضيف: "كل يوم حالة ميرا وسراج بتسوء… بخاف أفقدهم بأي لحظة.
ومنذ مايو/ أيار 2024 يواصل الاحتلال إغلاق معبر رفح في وجه المرضى، ما أدى الى وفاة عشرات الحالات التي لم تتمكن من السفر في الوقت المناسب، وفق تقديرات لوزارة الصحة في قطاع غزة.
وتشير بيانات وزارة الصحة إلى وجود أكثر من 16 ألف مريض وجريح بحاجة ماسة للسفر لتلقي العلاج في الخارج، بينهم مئات الحالات الخطيرة مثل مرضى السرطان والفشل الكلوي، بالإضافة إلى الأطفال الذين يحتاجون عمليات جراحية غير متوفرة في القطاع.
إغلاق المعبر لا يعني فقط منع السفر، بل يعني حرفياً إغلاق باب الحياة أمام آلاف المرضى. في ظل انهيار البنية التحتية الصحية بعد تدمير عشرات المستشفيات ونفاد الأدوية والمحاليل المخبرية الأساسية، أصبح السفر هو الخيار الوحيد لإنقاذهم.
بالنسبة لميرا وسراج، فإن جرعات البوتاسيوم غير المتوفرة في غزة تعني أن حياتهما معلقة بخيط رفيع، وأن كل يوم تأخير في فتح المعبر يترك أثراً خطيراً على أعضائهما الحيوية.
وتتحدث الأم بمرارة عن الأعراض التي تظهر على طفليها بفعل تدهور حالتهما الصحية "بصير معهم اسهال واستفراغ وارتخاء في جسمهم، وتعب وإرهاق، ولا يأكلون ولا يشربون كالمعتاد".
وتستصرخ منار كل الضمائر والمؤسسات الدولية علّ أحداً يستمع لنداءاتها "ياريت يفتحوا معبر رفح.. كل يوم الحالة الصحية لأولادي تتدهور، وأنا خايفة أفقدهم في أي لحظة".
قصة ميرا وسراج ليست استثناءً، بل واحدة من آلاف القصص التي تروي كيف يمكن للحصار وإغلاق المعبر أن يحوّل المرض من تجربة إنسانية مؤلمة إلى حكم بالإعدام.
فلسطين أون لاين