أخبار اليوم - كان أكرم محمد أبو ميري، ابن العشرين عامًا، شابًا في مقتبل العمر، من سكان قطاع غزة، لا يزال يحلم بحياة بسيطة وآمنة، مليئة بالتفاصيل التي يتوق إليها أي شاب في سنه، لكن الاحتلال الإسرائيلي قرر أن يسلبه شبابه في لحظةٍ واحدة، بين صمتٍ وانفجار.
في بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، اضطُر أكرم وعائلته إلى النزوح من منزلهم شرق دير البلح، بعد أن تحوّلت المنطقة إلى هدف مفتوح للطائرات والمدافع. حملوا ما استطاعوا من متاعٍ، وقلوبهم ممتلئة بالخوف، واتجهوا إلى وسط المدينة على أمل أن يجدوا قليلًا من الأمان.
لكن الحقيقة كانت أقسى من الظنون. يقول أكرم: "ما في مكان آمن.. كنا نركض من موت إلى موت"، وهو يستعيد لحظة النزوح بجسد غارق في التعب.
في المدينة التي لجؤوا إليها، لم يتوقف القصف، بل ازداد ضراوة. وفي إحدى الليالي، وتحديدًا في الثامن عشر من فبراير/شباط 2024، كانت سهرة عائلية بسيطة قد انتهت بتناول وجبة العشاء، ثم ذهب كل فرد إلى غرفته… قبل أن يسبقهم صاروخ الاحتلال إلى أحلامهم.
مزّقت الشظايا أجسادهم، وتحولت أحلام أكرم إلى أوجاع لا يزال يعيش تفاصيلها حتى اليوم.
يقول لصحيفة "فلسطين": "لا أذكر من ذلك اليوم شيئًا سوى أننا تناولنا العشاء معًا، ثم نمنا… ولم أستيقظ إلا بعد عشرة أيام". هكذا تبدّلت حياته دون سابق إنذار.
استهدف الاحتلال المنطقة التي كانوا يقطنونها، فأُصيب أكرم بشظايا قاتلة وهو نائم بين أفراد عائلته، لتبدأ رحلة طويلة من الألم، والعمليات الجراحية، والغيبوبة التي امتدت لأيام.
أخبر الأطباء حينها والده وأقاربه أن حالته الصحية حرجة للغاية، وأنه بين يدي الله، وعليهم الدعاء له بالرحمة. نُقل أكرم في وضع خطير جدًا من مستشفى شهداء الأقصى إلى المستشفى الأوروبي، وقد كانت الشظايا قد مزّقت جسده؛ بطنه، وقدميه، وجهازه التناسلي، وعينه اليمنى، ليقضي بعدها شهورًا في العمليات الجراحية ومحاولات الإبقاء عليه حيًّا.
ولكن لطف الله كان حاضرًا، فاستيقظ ذات يوم على صوت والده بجواره على السرير، يواسي من حوله ويقول: "الله يرحم بنتي ومرتي". لم يستوعب أكرم ما سمعه، وسرعان ما عاد إلى غيبوبة ليومٍ آخر.
لاحقًا، بدأ الأطباء بإخباره عن وضعه الصحي، وأن عينه اليمنى تضررت بالكامل وتحتاج إلى عملية تفريغ. لم يتقبّل الخبر، وقال بصوتٍ مختنق: "لم أُصدّق… قلت للأطباء لا، عيني سترجع، ربما تحتاج فقط إلى وقت… كنت أرفض تصديق أنها ستذهب إلى الأبد".
لكن الحقيقة كانت أقسى مما تحتمله روحه، ومع مرور الأيام تأكد له أنه لن يرى بعينه مرة أخرى.
"كانت الكلمات كسكاكين تقطّع القلب قبل الجسد"، يصف أكرم لحظاته قبل العملية، ويضيف: "كنت أقول في نفسي: يمكن يخطئوا، يمكن يجدوا حلًّا، يمكن تصحو عيني فجأة… لكن بعد العملية شعرت بفراغ؛ ليس في وجهي فقط، بل في روحي، كأن جزءًا مني انكسر للأبد".
خسر عينه اليمنى، لكنه يحاول التمسك بالأمل في الأخرى، وفي ما تبقى من حياة يسعى لترميمها وسط الركام والذاكرة، خاصةً أن عينيه لم تكن كل ما فقده؛ إذ أُصيب بشظايا في بطنه وقدميه وخصيتيه.
مكث أكرم في المستشفى ثلاثة أشهر، لم يكن خلالها مجرد مريض، بل مقيمًا دائمًا في حضن الألم. أُجريت له أربع عمليات جراحية، كانت أشدها وقعًا عملية تفريغ العين اليمنى، تلتها عملية تركيب عين زجاجية، لكنها لم تكن بالحجم المناسب، فبدت أصغر من الطبيعية، وخلّفت أثرًا نفسيًا عميقًا في داخله.
يقول بنبرة مخنوقة: "لا أستطيع مواجهة الناس… كلما خرجت شعرت أن العيون تلاحقني بنظرات شفقة أو استغراب".
لم يكن الألم جسديًا فقط، بل تسلل إلى أعماقه. فشاب في العشرين وجد نفسه فجأة أمام هوية جديدة وواقع لا يشبه أحلامه، ولا طموحه الذي كان يرسم ملامحه بدراسة هندسة صيانة الإلكترونيات قبل الحرب.
ويتابع بصوت خافت: "أنا لم أمت، لكن حياتي قبل الإصابة انتهت… كل يوم أستيقظ وأتمنى أن يكون ما حدث مجرد كابوس". واليوم، ينتظر تحويلة طبية تسمح له بالسفر للعلاج في الخارج، بعد أن فقد الأمل في تلقي الرعاية اللازمة داخل مستشفيات القطاع المحاصَر.
"أريد أن أُكمل حياتي… أن أحلم، أن أعمل، أن أكون إنسانًا طبيعيًا، لكن الاحتلال جعلني حكاية موجوعة"، يقول أكرم.
ورغم إعلان وقف إطلاق النار، لا يستطيع العودة إلى منزله، ولا يزال نازحًا في خيمة تزيد من وجع إصابته. يقول: "لا أعرف على ماذا أبكي أكثر… على عيني أم على أمي وأختي؟ الشمس والبرد يزيدان ألمي، وأحيانًا لا أستطيع النوم من شدّة الوجع والصداع".
يزداد وجع أكرم بصراعٍ داخلي بين دموع الفقد، ودموع الألم، على والدته وشقيقته اللتين خطفتهما الحرب منه إلى الأبد.
اليوم، يعيش نازحًا في خيمة صغيرة تفتقر لأبسط مقومات الحياة، تتقلب فيها درجات الحرارة بين حرّ النهار وبرد الليل، ليزداد صداع رأسه وألمه في عينه المصابة… ويظل ينتظر شفاءً قد يعيد إليه جزءًا من الضوء الذي سرقته الحرب.
فلسطين أون لاين