أخبار اليوم - عواد الفالح - الحديث عن هدر الطعام في الأردن عاد بقوة إلى الواجهة، وأثار نقاشًا واسعًا وحادًا تجاوز الأرقام إلى جوهر أعمق يتعلق بالعدالة الاجتماعية، وبالسؤال الجوهري: من يهدر فعلًا، ومن يُحمَّل التهمة؟ وهل من الإنصاف وضع ربّة بيت في حي شعبي، أو عامل بالكاد يؤمّن قوت يومه، في الخانة ذاتها مع مطاعم فاخرة وولائم مفتوحة لا يُسأل أصحابها عن شيء؟
النقاش الأخير انطلق بعد إعلان نتائج دراسات وطنية رسمية أظهرت أن متوسط الهدر الغذائي السنوي للفرد في الأردن يبلغ نحو 81 كيلوغرامًا، مع تسجيل أعلى المعدلات في محافظة الزرقاء، وأدناها في عجلون، إضافة إلى أرقام كبيرة في قطاعات المطاعم والفنادق والمستشفيات. هذه الأرقام، رغم أهميتها في بناء سياسات عامة، فتحت بابًا واسعًا للغضب الشعبي، لأن كثيرين شعروا أن النتائج قُرئت بطريقة تختزل المجتمع كله في صورة واحدة، وتُساوي بين من يملك فائضًا ومن يعيش على الحد الأدنى.
في الشارع الأردني، بدا الاعتراض واضحًا. مواطنون كُثُر أكدوا أن ثقافة البيوت، خاصة في الطبقة العاملة، تقوم على حفظ النعمة لا تبديدها، وأن الطعام يُعاد استخدامه لأيام، ويُحسب قبل شرائه، وتُدار المائدة بحذر شديد. في المقابل، يرى هؤلاء أن مشاهد الهدر الحقيقية تظهر في مناسبات ضخمة، وولائم مفتوحة، ومطاعم تُعد كميات تفوق الطلب، ثم تُلقى في الحاويات بحجة السلامة أو الجودة أو ضعف التنظيم.
الأرقام نفسها، عند قراءتها بهدوء، تدعم هذا الطرح أكثر مما تنفيه. فالدراسات تشير بوضوح إلى أن المطاعم وحدها سجلت آلاف الأطنان من الهدر، وأن السبب الرئيسي يعود إلى سوء التخطيط، وإدارة المشتريات، وسلوكيات التقديم، لا إلى حاجة الناس أو نمط استهلاكهم اليومي. كما أظهرت نتائج قطاع الفنادق أن النسبة الأعلى من الهدر تحدث في مرحلة التقديم، لا في الشراء أو التخزين، وهو ما يعكس نمطًا استهلاكيًا مرتبطًا بالعرض الزائد لا بالحاجة الفعلية.
أما في القطاع المنزلي، فرغم تسجيل متوسط مرتفع على مستوى الفرد، فإن النقاش يدور حول المنهجية أكثر من الرقم نفسه. كثيرون تساءلوا: هل شملت العينة الفوارق الطبقية؟ وهل تم التمييز بين أحياء فقيرة وأخرى ميسورة؟ وهل يُعقل أن تُعامل أسرة تعيش على العدس والبطاطا والخبز بالمعيار نفسه الذي يُطبق على من يطلب طعامًا فاخرًا بكميات كبيرة ثم يتخلى عنه؟
الزرقاء، التي تصدرت المؤشر، كانت محور غضب إضافي. كتاب وباحثون وأهالٍ رأوا أن تحميل محافظة ذات طابع عمالي كثيف مسؤولية أعلى معدلات الهدر يفتقر إلى الحس الاجتماعي، ويتجاهل واقع الفقر والبطالة وارتفاع الكلف. بل إن كثيرين أشاروا إلى مفارقة لافتة: الحاويات في أحياء واسعة من المحافظة تخلو في الغالب من بقايا طعام، بينما تنتشر حولها أوراق وبلاستيك، في دلالة على أن المشكلة أعمق من اتهام مباشر بالهدر.
النقاش هنا لا يُنكر وجود هدر في المجتمع، ولا يُعفي الأفراد من مسؤولياتهم الأخلاقية والدينية في حفظ النعمة، لكنه يرفض التعميم، ويرفض نقل العبء من صانعي الهدر الحقيقيين إلى الفئات الأضعف. فحين يُلقى فائض الولائم، أو تُعدم كميات كبيرة من الطعام الجاهز يوميًا في المطاعم والفنادق، ثم يُقال إن “الأردنيين يهدرون”، يصبح السؤال مشروعًا: من هو الأردني المقصود؟
ما يطالب به الشارع اليوم ليس إنكار الأرقام، بل إعادة توجيه البوصلة. المطلوب سياسات ذكية تفرّق بين القطاعات، وتضع المسؤولية حيث يجب أن تكون، وتفتح بابًا لتنظيم المطاعم، وتشجيع إعادة التوزيع الآمن، ودعم مبادرات التبرع المنظم، بدل الاكتفاء بخطاب عام يُحمّل المجتمع كله ذنبًا واحدًا.
في المحصلة، النقاش حول هدر الطعام في الأردن كشف فجوة بين لغة الأرقام ولغة الناس. الأرقام ضرورية، لكنها بلا روح إن لم تُقرأ بعدالة، وبلا أثر إن لم تتحول إلى سياسات منصفة. السؤال الحقيقي لم يعد: هل نهدر الطعام؟ بل: من يهدر، ولماذا، ومن يدفع الثمن؟ هذا السؤال وحده هو المدخل الصحيح لأي إصلاح جاد، بعيدًا عن التعميم، وقريبًا من الحقيقة.