أبو محمود

mainThumb

11-09-2023 11:39 AM

printIcon

عبدالهادي راجي المجالي

.... أتذكر أول كشك في أبو نصير , كان صاحبه اسمه (أبو محمود) ...في البداية ظننت أنه مجرد (كشك) لبيع السجائر والعصائر , لكن تبين لي فيما بعد أنه أول تجمع منظم انخرطت به .

كنت غالبا أثناء ذهابي للمدرسة , أتوقف عند كشك (أبو محمود) , فقط لأجل التدخين ...أنا لا أعرف لماذا أصلا كنت أفعل ذلك , وانتظر البنات كي يعبرن إلى المدرسة من كافة المرتبات : ( توجيهي , أول ثانوي , ثالث اعدادي) ..كانت البنات في زمننا يختلفن عن بنات هذه الأيام , فحين تسمع مثلا أن خديجة تزوجت وهي في التوجيهي , يعتبر الأمر عاديا ....أصلا لم يكن هنالك ما يسمى حملات ضد الزواج المبكر ....أتذكر أيضا أن (عواطف) تزوجت في الثالث الإعدادي , وأنجبت توأما في الثاني ثانوي ...كان الأمر عاديا جدا كما قلت .

فيما بعد انضم لي طلبة المدرسة , يبدو أنهم استحسنوا فكرة التدخين عند (أبو محمود) والرجل طور أدواته في التجارة بحيث صار يقوم ببيع الشاي لنا , ومع تقادم الأيام صار ينضم لنا مجموعات من الموظفين المترهلين , وأرملة كانت تعمل في مستشفى الجامعة الأردنية , (وشوفيرية) خط أبو نصير ..وصرنا جميعا نجتمع بين السابعة والسابعة والنصف صباحا ثم نغادر .

كنت أنا النواة الأولى لتأسيس هذا التجمع , وأنا من اقترح على (أبي محمود) إضافة الشاي , وأنا أيضا من اقترح عليه أن يفتح دفترا خاصا لمن يريد أن يستدين .

ما زلت أحن لتلك الصباحات , ما زلت أتذكر باص الملكية الأردنية , كان يأتي لأخذ الموظفات ..والغريب في الباص أنه حين يمر من جانبنا , كان يلقي بعطره علينا , يا إلهي كم كان يحمل هذا الباص من عطور , اتذكر أيضا بنتا من مرتبات التوجيهي ..كانت توهم صديقاتها بأني أقف لأجلها فقط , ولكنها لا تعيرني أي اهتمام لأني ( سرسري) هكذا كانت تقول , وأتذكر أن بعض الطلبة الميسورين والذين انخرطوا في المدارس الخاصة , كانوا ينتظرون الباص بجانب الكشك ..وكنا ننظر لهم بنوع من الإزدراء , لأننا كنا نعتبر أنفسنا بأننا أكثر خشونة منهم وأكثر رجولة , أصلا كنا ندخن علانية ..هم لم يجرأوا على فعل ذلك .

ذات صباح وحين وصلت للكشك , صعقت لأنه كان مغلقا , فأنا لم اعتد على أن أجد هذا المكان شاحبا...الدنيا كلها تغلق أبوابها إلا (ابو محمود) لا يغلق الكشك ماذا حدث ؟ ..وحين سألت قيل لي , أن جلطة قلبية داهمت الرجل ليلة أمس ..ونقلوه لمشفى الجامعة لكنه فارق الحياة ....

يومها أحسست بأن قلبي أغلق , وباص موظفات الملكية لم يعد ينثر عطره , والبنات من كافة المرتبات ..لم تعد أي واحدة منهن تستفز قلبي , حتى أن (عواطف) جاءت إلي وبكل جرأة وسألتني عن الرجل ولم أجبها , واعتبر الأمر من قبل رفاق الحي بأنها تريد مغازلتي ..وأنا لا أعرف هي أرادت ذلك أم أنها أحست بحزني .

( أبو محمود) ..شكل أول تجمع انخرطت به في حياتي , فقد أسست معه حزب الشاي والسجائر والحب ...منذ ذلك التاريخ وحياتي موزعة بين جمر السجائر ورشفة الشاي وعيون البنات ...وها أنا أتنقل في المقال بين هذا الثالوث , لكني لم أعرف دفئا في العمر مثل ذلك الدفء الذي وجدته في عيون النساء ...

الفقراء وحدهم من يجيدون الحب .

abdelhadi18@yahoo.com