"ياسمين" تقاوم بالفن .. "لوحات رمادية" من تحت الأنقاض

mainThumb
"ياسمين" تقاوم بالفن.. "لوحات رمادية" من تحت الأنقاض

03-05-2025 11:31 AM

printIcon

أخبار اليوم - كانت ألوانها تفيض بالحياة، ولوحاتها تحفل بالضوء وبهجة السماء. واليوم لم يتبقَّ لياسمين الداية سوى الرماد والطين، تقاوم بهما معاناة غزة، وتوثّق وجوه الجوعى، وأطراف المبتورين، ووطناً تنهشه حرب الإبادة.

بين ولادة موهبتها على كرتونة مهملة، وانبعاثها من تحت الركام، تمتدّ حكاية فنانة لم تتخلّ عن ريشة تقاتل من أجل البقاء، في وقت يدفع فنانو غزة أرواحهم ثمنا لإصرارهم منذ بدء الاحتلال الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.



"بدأت الرسم من لحظة ضجر في المدرسة الإعدادية. أمسكت ألوان غواش صدفة، فرسمت سماءً زرقاء… ومنذ تلك اللحظة، لم أترك الريشة"، ياسمين (24 عاما) خريجة تربية فنية من جامعة الأقصى، تعود بالذاكرة في حديث مع صحيفة "فلسطين" إلى بداية مشوارها.

علّمت نفسها عبر الإنترنت، وخاضت تجارب فنية متعددة في النحت، الفسيفساء، الطباعة، والتصوير التشكيلي.

كانت تنوي دراسة اللغة الإنجليزية، لكن الفن غيّر مسارها، رغم معارضة والدها التي قاومتها والدتها بإصرار ودعم. أنهت مشروع تخرجها بتفوق، وحصدت المرتبة الثالثة، لكن قبل تسلم شهادتها بساعات، انهار كل شيء. الحرب بدأت، والجامعة دمّرت، والمشروع أصبح ركاما.

نزحت قسرا مع أسرتها إلى جنوب قطاع غزة دون أي من أدواتها ولا حتى قلم رصاص: "الاحتلال هددنا في الشمال وأجبرنا على النزوح ولم نأخذ معنا سوى غيارين من الملابس لاعتقادنا أننا سنعود بعد أسبوعين".





لكن المأساة لم تقتصر على طول مدة النزوح القسري التي استمرت أزيد من سنة، بل امتدت لاستهداف النازحين قسرا في جنوب القطاع وهو المنطقة التي زعم جيش الاحتلال أنها "آمنة".

في مكان نزوحهم تعرضوا لقصف مباغت، فقد شقيقها الأصغر إسلام ساقه اليمنى وأصيبت ساقه اليسرى أيضا. تقول: "كانت من أقسى اللحظات… كنت بحاجة للرسم كي أتنفس". بعد ستة أشهر، عاد شقيقها أحمد ببعض الألوان ودفتر، فعادت ياسمين للرسم، لكن بملامح مختلفة تماما.

في أبراج حمد بخانيونس حيث محطة نزوحها القسري الجديدة آنذاك بدت المنطقة لها كصحراء خالية، كل ما حولها مدمر. ومع بداية تلمس سبل الحياة، صنعوا فرنا من الطين، ووجدت ياسمين فيما تبقى منه مادة لتلبية نداء شغفها.

بكلمات من الحسرة ترسم مشهدا لن تنساه: "زاد بعض الطين، أخذته بدلا من أن يعطب، وقلت في نفسي: سأصنع منه أعمالا فنية".

صنعت منحوتة من الطين تمثل يداً مقطوعة وسط ركام، هي ما تبقى من شاب مفقود، ثم جسدت فتاة مبتورة القدمين تحاول الوقوف لكنها لا تستطيع الاتكاء على العكاز بيد واحدة، مستلهمة ذلك من معاناة شقيقها الذي شهدت معه أصعب الظروف، وهو حال كثير من الغزيين الذين فقدوا أطرافهم.



ويشهد قطاع غزة تصاعدا كبيرا في أعداد المصابين بحالات البتر نتيجة الإبادة الإسرائيلية، وسط نقص حاد في المعدات الطبية والأدوات اللازمة لتصنيع الأطراف الصناعية، بسبب الإغلاق المستمر للمعابر ومنع دخول المستلزمات الأساسية.

"ذاكرة وهوية"

لوحاتها الجديدة باتت رمادية، حزينة، تعبيرا عن المعاناة الإنسانية في ظل حرب الإبادة، تحمل ملامح الجوع والحزن الصامت ووجوه الأطفال وهم يصطفون على تكية خيرية، يريدون الحصول على الطعام، والماء.

"كفنانة في غزة، أشعر أنني أعيش في سجن"، تقول ياسمين. "لا دعم، لا مؤسسات، ولا حتى صوت يُسمع… أنشر لوحاتي لأقول للعالم: نحن هنا، نرسم رغم كل شيء". في نظرها، الفن الغزي هو ذاكرة وهوية ومقاومة. تعبر عن ذلك بقولها: "في كل لوحة حكاية شعب ما زال متمسكا بأرضه وكرامته رغم كل شيء".

وحين تنقطع الاتصالات والإنترنت كما حدث في غزة، تصبح اللوحة صرخة قادرة على الوصول حيث لا يصل الصوت: "لوحة واحدة من فنان غزي قد تحدث تأثيرا عالميا يفوق عشرات الأخبار".

تضيف: أصبح فني وسيلة قوية لتوثيق الألم اليومي، من العدوان والنزوح إلى الفقدان والصبر. في ظل الحصار والدمار، يتحول الفن إلى المتنفس الوحيد، والوسيلة الآمنة لتفريغ المشاعر.

وترى أن "الفن يكشف للعالم أن غزة ليست فقط منطقة صراع، بل فيها مبدعون، حياة، وأحلام، وهذا بحد ذاته مقاومة ثقافية وإنسانية".

تحلم ياسمين بأن تعيش حياة كريمة تمارس فيها فنها بحرية وتتمكن من حقها في التنقل والعودة لتكتسب مزيدا من العلم والخبرة. حلم بسيط، لكنه يبدو بعيدا وسط الحصار والدمار. ومع ذلك، ما زالت تقاتل بلوحة، وتنحت من الطين ذاكرة لا تموت. ففي غزة، الريشة أيضا تقاوم.

فلسطين أون لاين