أخبار اليوم - عندما تقدّم بسام أبو سنينة لخطبة بيان عواودة بعد تحرره في صفقة "وفاء الأحرار"، صارحها بخياره: "أنا ممكن أعيش ثلاث أو أربع سنوات على الأكثر، وغالبًا سأُستشهد. الطريق اللي مشيت فيه مش رح أتركه". وأضاف ممازحًا: "من البداية، إذا مش قادرة تتحملي الطريق والحياة، لساتنا على البر".
مضت الحياة، وتحول ذلك الحديث إلى ذكرى طريفة بينهما، حيث اعتادت زوجته أن تمازحه: "اتفقنا على أربع سنين ونرجع على الضفة.. طولنا في غزة!".
تزوج بسام (52 عامًا)، المُبعد من القدس إلى غزة، من بيان (33 عامًا) القادمة من الخليل، التي اختارت طريقًا صعبًا، بعيدًا عن عائلتها، ليحملا معًا وجع الغربة، ويكملا فصول الحكاية. رُزقا بخمسة أطفال، لم يرَ بسام أصغرهم قط.
أُبعد أبو سنينة إلى قطاع غزة ضمن صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، بعد أن قضى 12 سنة في سجون الاحتلال. صفقة كسرت حكم المؤبد، لكنها فرضت عليه غربة قسرية بعيدًا عن القدس التي وُلد فيها وعاش، وترك فيها عائلته، ليكمل حياته في بقعة أخرى من الوطن. ظل قلبه معلّقًا بشوارع القدس وأزقتها، وحلمه أن يعود يومًا ليصلي في المسجد الأقصى.
الانخراط المبكر
في 3 يوليو/تموز 2025، قصف الاحتلال مدرسة مصطفى حافظ في مدينة غزة، حيث كان المبعد أبو سنينة نازحًا، فاستُشهد مع زميليه المبعدين مهدي شاور وأيمن داود. هكذا انتهت رحلة المقاومة والسجن والإبعاد بالشهادة، رحلة بدأت منذ كان عمره 14 عامًا، حين حمل زجاجات حارقة ومقلاعًا وحجارة، وبدأ طريقه في مقاومة الاحتلال.
اعتُقل بعد أولى عملياته، وقضى عامًا في السجن، لكنه لم يتراجع، بل نفّذ لاحقًا عملية طعن مستوطن في القدس برفقة رياض عسيلة، الذي أُبعد أيضًا إلى غزة واستُشهد في 8 يوليو/تموز، ليكونا رفيقي الدرب في العملية، والأسر، والإبعاد، ثم الشهادة، بفارق أيام.
حُكم على بسام بالمؤبد وخمس سنوات إضافية، أمضى منها 12 عامًا قبل إطلاق سراحه في الصفقة.
فراق الحرب
كما أبعده الاحتلال عن القدس، فصلته الحرب عن زوجته وأطفاله، الذين نزحوا إلى جنوب القطاع، بينما بقي هو في شماله. وفي مارس/آذار 2024، سافرت زوجته مع أطفالهم الخمسة إلى تركيا، حيث أنجبت طفلهم الخامس "خالد"، الذي كانت تحمله في شهرها الثاني مع بدء الحرب. لم يتمكن بسام من احتضانه أو رؤيته إلا عبر مكالمات مرئية خلال التهدئة الأولى في يناير/كانون الثاني 2025.
تحكي زوجته بيان لـ "فلسطين أون لاين": "علمت باستشهاده عندما تواصل معي أصدقاء له من العائلة لأمر ضروري. من طريقة جلوسهم شعرت أن هناك شيئًا. قالوا في البداية إنه مصاب، لتهيئتي للخبر، ثم علمت أنه استُشهد. رحمه الله، كان مخلصًا لقضيته بشكل لا يُوصف، وكرّس وقته لمتابعة أوضاع الأسرى والمسجد الأقصى وتنظيم الدروس".
وتضيف بفخر: "الارتباط ببسام لم يكن ارتباطًا بشخص فقط، بل بفكرة. هو بطل خرج من السجن بعد أن قضى سنوات شبابه، وحمل هم قضيته. لم يكن ارتباطًا تقليديًا يدور حول مستوى اقتصادي أو تجهيزات منزلية، بل خيارًا بالارتباط برجل اختار أن يكون بطلًا، لا مجرد زوج."
رُزق الزوجان بخمسة أطفال: شيماء (12 عامًا)، سراء (10 أعوام)، محمد (8 أعوام)، إبراهيم (6 أعوام)، وخالد (عام واحد). تقول بيان: "فرحته بالأطفال لا توصف. عندما تحرر كان في الـ39 من عمره، وكان متعطشًا لتكوين أسرة. أحب أطفاله كثيرًا واهتم بتربيتهم، وحرص على تفوقهم وتمسكهم بالأخلاق، وكان شديد التعلق بهم. وعندما رأى صورتهم لأول مرة خلال الحرب، بعد شهور من الفراق، أجهش بالبكاء."
وفاء للأسرى
في صباح 7 أكتوبر/تشرين أول 2023، وبينما عمّت مشاعر الفرح لدى الناس بهجوم المقاومة، كان القلق يسيطر على بيان، تقول: "كنت خائفة من تبعات ما يحدث، لأننا لا نملك عائلة هنا نلجأ إليها. سألته: شو رح يصير فينا؟ فأجاب: عادي.. لازم نتحمل عشان القضية والأسرى. كان وفيًا لهم، وحزينًا أنه تحرر بينما أسرى المؤبدات لا يزالون في السجون."
عاشت بيان أيامًا قاسية من النزوح جنوب القطاع، وسط غياب العائلة، وتضيف: "كنا نعيش معاناة كبيرة، لكن عائلات المبعدين كانت تسند بعضها. تواصلنا كان نادرًا جدًا، لأنه يعرف أنه هدف للاحتلال. كنت أطمئن عليه من خلال أشخاص رأوه، حتى تمكنت من السفر لاحقًا."
وفي فترة التهدئة، عاد التواصل ليكون "شبه طبيعي"، كما تقول: "تفاجأ أن بناته كبرن وتغيرت ملامحهن. كان سعيدًا جدًا برؤية ابنه خالد لأول مرة عبر الفيديو. تشاركنا صورًا ومقاطع، وكنا نأمل أن نلتقي من جديد. كان يعتقد أن الحرب ستنتهي قريبًا، وكان لديه ترتيبات للعودة واللقاء في غزة."
حلم لم يكتمل
توفي والد بسام في الشهر الأول من الحرب، لكنه لم يعلم بالخبر إلا بعد أربعة أشهر. أما والدته، فلم يرها إلا مرة واحدة عام 2012 حين زارته في غزة مع ولادة طفلتهما الأولى. تقول بيان:
"سنحت له فرصة السفر إلى تركيا قبل الحرب، لكنه رفض. قال لي: ما بطلع من غزة إلا على القدس، هذا المكان الوحيد اللي ممكن أروحه."
امتاز بسام بشخصية محبوبة ومُحبة للمزاح، لكنه كان صارمًا حين يتعلّق الأمر بالقضية والأسرى. تستذكر زوجته أنه خلال إضراب الأسرى عام 2013، بكى بشدة تأثرًا بمعاناتهم.
بسام أبو سنينة... سيرة حافلة بالصمود والتضحية، خاضها منذ طفولته حتى استشهاده، تاركًا خلفه قصة نضال حيّة، لا تعرف الانكسار.
فلسطين أون لاين