الوداع الأخير .. وجع غائر في ذاكرة أهالي شهداء غزَّة

mainThumb
الوداع الأخير... وجع غائر في ذاكرة أهالي شهداء غزَّة

07-07-2025 10:15 AM

printIcon

أخبار اليوم - في ليلة باكية، جاء "اليمان" (8 أعوام)، إلى والدته آية شمعة حاملا ما تبقى من رغبته في الحياة: ربع رغيف خبز هو حصته المخصصة له. كان الظلام ينتشر في الأرجاء، والمجاعة تفتك بالبيوت، وهو يصر بإلحاح: "ماما، خبيه للصبح"، كي لا يستيقظ جائعا.

كان اليمان على بعد 30 دقيقة فقط من الجنة، حيث لا جوع ولا قصف لكن الأم لا تزال هناك، في اللحظة نفسها، بين الرغيف وصوت ابنها، تكابد وجع رحيل طفلها شهيدا.

بين ويلات حرب الإبادة الجماعية المستمرة للشهر الـ21 تواليا، يختلط الغبار والدم بالذكريات. تتطاير بين البيوت المنكوبة كأنها طيور جريحة، تحمل وصايا الشهداء، وكلماتهم الأخيرة التي بقيت في حضن الأمهات والزوجات والأبناء... بقيت تقتات عليها الذاكرة، وتورثها الحناجر المنكوبة.

ذكريات خطها ذوو الشهداء في الفضاء الإلكتروني، ليشاركوا عبرها أوجاعهم، ويوثقوا حكاياتهم، فهم ليسوا مجرد أرقام في طابور لا متناه من الضحايا الذين تجاوزوا 57 ألف شهيد.

الشهادة والشفاعة

"يا ماما لو استشهدت، بدي أشفعلكم كلكم"، حنين زيادة تتذكر ابنها كريم وهو يتأمل فكرة الشهادة والشفاعة، وكأنه يرى ما لا نراه.

"سألني: يا ماما الشهداء بشفعوا لمين؟ ولما شرحت له عن الجنة، قال ببراءة العارف: "لو استشهدت، بدي أشفعلك ولبابا وسمير أخوي ودار سيدي كلهم".

ثم سأل، بقلق طفل يراجع درسا أخيرا: "لو اتذكرت حد من أصحابي بدي أشفعلو.. كيف أحكي لربنا؟" أجابته: "غير الموضوع، خلص يا كريم". قال: "والله حسكت، مش حأسأل". وتنهدت الأم: "ما كنت بعرف إنو حيفارق.. قلبي خلص".

في ذكريات "حارقة" أخرى، طفلة لا تتجاوز العامين والنصف، هي "ياسمين"، قالت لوالدتها زينب أبو سويرح: "ماما أنا خايفة كتير". طلبت أن ترتدي ملابس أخيها، ثم ارتقت وهي تلبسها. تقول أمها: "بتمنى الآن تكون لقت الأمان والراحة اللي انحرمنا منها".

أما هلا العقاد حاولت ثني زوجها عن الذهاب لدوامه، لكنها لم تستطع. قالت له: "ما تروح، بيستهدفوا الشرطة، خليك". فأجاب: "أنا ما بتخاذل، أنا بدي أموت في بلدي". كان الوداع الأخير، ووعدها أن يلتقيا في ساحات النصر.

في مشهد آخر، محاسن الخطيب، كما تروي شقيقتها أنوار، قالت قبل استشهادها: "نفسي أستشهد وأرتاح، يختي من الشقا". كانت تسهر الليل وتدبر الطعام في ظل الحصار، تعمل ما لا تطيقه عشرات الأكتاف، ثم نالت الراحة التي طالما طلبتها".

"قلبي مقبوض يا أحمد"

في مأساة جديدة، أحمد الحطاب سمع من شقيقه بلال، المصاب بمتلازمة داون، عبارة غريبة في بساطتها: "أنا راح أستشهد الليلة". ثم سمع من أمه: "قلبي مقبوض يا أحمد وخايفة". قصف الاحتلال العائلة كلها، وارتقى 29 روحا دفعة واحدة.

أما إيمان محمد تتذكر والدها الذي قال: "أنا بدي أموت شهيد، ومش طالع من البيت. بدي أندفن ببيتي". وقد استشهد ودُفن في جنينة المنزل، كما أراد.

وفي عيد مفخخ بالحزن حكاية أخرى. هيا خضر احتضنها والدها وقال لها: "ديري بالك ع حالك يا يابا". بعد ساعتين، كانت أمها تحذرها بمكالمة فيديو من القدوم لبيت العائلة بسبب الخطر. أما إخوتها فقالوا لها: "اشتقنالك كتير يختي"، لكنها لم ترهم، ولم تعانقهم ثانية.

حينما انقطع الاتصال اعتقدت أن السبب هو الإنترنت، لكن أهلها استشهدوا، بقصف إسرائيلي.

في قصة أخرى، تساءلت شقيقة "هيا علي": "هينا بنستنى… ابصر متى ييجي دورنا!"، قبل يوم من استشهادها، وكأنها تعرف أن نداء الرحيل قريب. ثم ارتقت وهي تصلي، صائمة.

أما شقيقها ارتقى على الجبهة في مواجهة الاحتلال، قبل أن يتمكن من الحديث معها للاطمئنان عليها، بينما ابنة عمها كتبت آخر رسالة: "احنا بخير، اتطمني." وفي اليوم التالي استشهدت، ولم يبق أحد في المنزل.

"والله متفائل"

وبين طيات الألم، تبرز حكاية عاصم، شقيق "إسراء موسى"، الذي قبّل رأسها وقال لها: "طولي بالك، والله متفائل". لم يعد بعدها. جميل، أخوها الآخر، كان يحضر الغداء، وينادي زوجته لتتفقد "المحاشي". أما محمد، الأصغر، فكان يدندن: "يا يما زفيني جيتك شهيد"، قصفهم الاحتلال قبل أن يتناولوا الغداء.

وفي ثنايا الوجع الممتد، يتجلى وجع آخر أصاب آية أبو جامع. زوجها قال لها قبل نصف ساعة من استشهاده: "ما حد بيرفع الموت عنا، يا حبيبتي. ديري بالك ع حالك وعالبنت، ضلك قوية". ثم قال ما لن تنساه أبدا: "منورة بثوب الصلاة، الله يخلف عليّ مشان تتذكريني".

آلاء محمد من جهتها تتذكر آخر لحظة لزوجها، حين قال لرضيعته ذات الخمسة أيام: "سوسو بابا حبيبي". فابتسمت لأول مرة في حياتها… ولآخر مرة معه. قال لها: "اللي كاتبه ربنا بصير"، ثم انقطع الاتصال.

حب عظيم وحنين أكبر في كلمات الشهداء الأخيرة، وفي من تبقى حكايات لا تموت، عمن ذهبوا وبقيت وصاياهم تمشي في الأزقة، وتُقرأ في عيون الثكالى، وتُهمس في زوايا الليل.

 فلسطين أون لاين