أخبار اليوم - وصلت حالة التجويع في قطاع غزة إلى مستويات كارثية غير مسبوقة، تنذر بكارثة إنسانية تُعد من الأشد في التاريخ الحديث، مع استمرار إغلاق المعابر لليوم الـ139 على التوالي، منذ استئناف الاحتلال عدوانه في مارس/ آذار الماضي.
أدّى الحصار إلى نفاد معظم المستلزمات الأساسية، وعلى رأسها الطحين والأرز، مع شُحّ شديد في الخضراوات، وندرة في المياه، وانقطاع شبه تام في الأدوية، في ظل استمرار الغارات والمجازر اليومية، وتفاقم موجات النزوح الجماعي. تقاطعت هذه الأزمات لتُنهك أجسادًا أكلها الجوع والتشرد.
طفل يبحث عن وجبة
لثلاث ساعات، جال الطفل لؤي عز الدين بحثًا عن طعام يُعيده لإخوته الثلاثة الأيتام ووالدتهم، المنتظرين في خيمة بمخيم إيواء غرب مدينة غزة. منذ استشهاد والدهم في بداية الحرب، تولّى لؤي (11 عامًا) وشقيقه أحمد (13 عامًا) مسؤوليات تفوق أعمارهم، لكن العودة كانت هذه المرة حزينة، بعينين منكسرتين ووعاء فارغ.
لم يكن في حوزة والدتهم سوى كيلو عدس، هو آخر ما تبقى لديهم من الطعام. طهتْه لأطفالها، لكنها لم تستطع أن تسدّ جوعهم. على باب الخيمة، ارتشف لؤي طبقًا صغيرًا من العدس عند الساعة الرابعة عصرًا، لكنه أخفى جوعه لتوفير ما تبقى لإخوته. جميعهم لم يذوقوا رغيف خبز منذ ثمانية أيام، "لقلة ما في اليد"، كما قالت والدتهم بحسرة لصحيفة "فلسطين".
قلقٌ من القادم
تقول أم أحمد، والدة لؤي، بملامح يكسوها القلق: "طهيت آخر ما أملك... العدس. لا أدري ما الذي سنأكله غدًا. زوجي شهيد، ولا مصدر دخل لدينا. أطفالي يعودون يوميًا من التكايا الخيرية بأطباق فارغة، بالكاد يحصلون على شيء وسط تزاحم الناس".
مع نفاد الطحين، أصبح العدس "وجبة يومية" على موائدها، رغم أنه لا يُشبع أطفالها. في المساء، تتفاقم معاناة صغيرتيها من الجوع، فتقول بمرارة: "يتقطع قلبي وأنا أراهم يبكون جوعًا ولا أملك شيئًا".
الخيام تشهد مآسي جماعية
ليست أم أحمد وحدها في هذا الحال. فداخل خيام مخيم الإيواء، تتكرر القصة بأشكال مختلفة.
في خيمة مجاورة، يجلس مجدي سمور، وقد مدّد قدمه المصابة على كرسي بلاستيكي. يعيش مع 23 فردًا، بينهم ذوو إعاقة، وأطفاله وأبناء شقيقاته. يقول بصوت متعب: "لم نأكل الخبز منذ خمسة أيام. نعتمد على ما قد تصلنا به التكية، وإن لم تصل، نبقى جائعين. بالكاد نحصل على طبق شوربة عدس كل أربعة أيام".
تقف إلى جانبه طفلتان من أسرته، بادية على وجهيهما علامات واضحة لسوء التغذية. يضيف بغضب: "خسرت الطفلتان نصف وزنهما. أجسادنا نحلت، والعالم يتفرج علينا نموت جوعًا دون أن يتحرك. حياتنا في الخيام تمزقت مثل أقمشتها المهترئة".
وتصف أم نسيم سمور الحال قائلة: "نقف في طوابير على التكايا لساعات، ونعود أحيانًا بلا طعام. طفلتي مريضة وتحتاج علاجًا وحفاظات، ولا أستطيع تأمين أي شيء".
طفلتها، التي لا تستطيع الكلام، تصرخ باستمرار من الجوع، وهي وسيلتها الوحيدة للتعبير عن ألمها، وسط عجز والدتها عن إسكاتها أو إطعامها.
علبة بازيلاء تكفي لوجبة
في خيمة أخرى، تمكنت زوجة محمود عفانة، المصاب ببتر، من العثور بصعوبة على علبة بازيلاء، بعد رحلة طويلة إلى الأسواق في شارع الجلاء وشارع النصر. وجدت الأسعار خيالية، والسلع نادرة، فعادت بما استطاعت.
يقول محمود: "منذ ثمانية أيام نعيش على العدس والمعكرونة. الطحين والأرز نفدا من السوق، ولم يعد بالإمكان تحضير وجبة متكاملة. حتى العدس المجروش، الذي كان بسيطًا ومتوافرًا، لم يعد موجودًا. إنها أخطر مرحلة نعيشها".
منذ 139 يومًا، يعيش قطاع غزة تحت حصار خانق نتيجة إغلاق المعابر، ما أدى إلى منع دخول أكثر من 76 ألف شاحنة محمّلة بالإمدادات الإنسانية والمواد الغذائية والطبية. في ظل هذا الحصار، قصف الاحتلال الإسرائيلي 42 تكية طعام، وحوّل مراكز توزيع المساعدات إلى "مصائد موت" أسفرت عن استشهاد 877 فلسطينيًا.
ويواجه أكثر من 650 ألف طفل خطر الموت بسبب الجوع وسوء التغذية، بينما يُمنع 22 ألف مريض من السفر لتلقي العلاج خارج القطاع، من بينهم 12 ألف مريض سرطان في دائرة الخطر، و60 ألف امرأة حامل محرومة من الرعاية الصحية اللازمة، إلى جانب 350 ألف مريض مزمن حُرموا من الحصول على أدويتهم الأساسية. واقعٌ إنساني كارثي يكشف حجم الجريمة المستمرة بحق أكثر من مليوني إنسان في غزة.
ما كانت تُعرف بأنها وجبة بسيطة، تحوّلت اليوم إلى "رفيق المجاعة"، والعدس الذي كان يسد رمق الجوع، اختفى من الأسواق. غزة لا تعاني من أزمة غذائية فحسب، بل من سياسة تجويع ممنهجة وإبادة بطيئة تُرتكب على مرأى ومسمع العالم.
فلسطين أون لاين