"مفرمة بشرية" .. مصرية تروي تجربتها مع "مصائد قتل المجوعين" بغزة

mainThumb
"مفرمة بشرية".. مصرية تروي تجربتها مع "مصائد قتل المجوعين" بغزة

04-08-2025 10:01 AM

printIcon

أخبار اليوم - تحت سيف التجويع وقسوة احتياج طفليها إلى الغذاء، وجدت المصرية العالقة في غزة نيفين الدحنون نفسها مجبرة على سلك طريق محفوفة بالمخاطر إلى ما تسمى مراكز المساعدات الأمريكية في رفح، لكنها هناك، كانت فريسة محتملة للموت.

تحمل نيفين الجنسية المصرية وكانت في زيارة لغزة قبل بدء حرب الإبادة الجماعية، وبقيت فيها مع طفليها: عمران (سبعة أعوام) ومالك (ستة أعوام)، لتتشارك مع الشعب الفلسطيني مشقة الحياة وضنك العيش.

عن دوافعها للتوجه إلى ما تسمى "مؤسسة غزة الإنسانية"، تقول نيفين ، إن حاجة طفليها للطعام، وحديثهم عنه، كانا "كسكين حاد ينزل في قلبي ويمزقه، فأنا لا أستطيع أن أوفر طحينا ليأكلوا خبزًا مرة واحدة في الأسبوع حتى".

ترددت نيفين كثيرا في الذهاب. "كنت كل ليلة أفكر: لماذا لا أذهب؟ هناك نساء يذهبن، وعندما أسمع الأخبار: 50 شهيدًا، 80 شهيدًا ضحايا للمساعدات، أتراجع فورًا"، قبل أن يوخزها حديث أبنائها عن الطعام المفقود.

ومنذ الثاني من مارس/آذار، أطبق جيش الاحتلال حصاره على قطاع غزة، مانعا دخول المساعدات الإنسانية بما في ذلك الغذاء، قبل أن يسمح أخيرا، تحت ضغط دولي، بدخول بضع شاحنات تقول المنظمات الدولية إنها تمثل قطرة في محيط الاحتياج الإنساني.

وبعيدا عن إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية الدولية، بدأت سلطات الاحتلال منذ 7 مايو/أيار تنفيذ خطة توزيع مساعدات عبر ما تُعرف بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، وهي مدعومة إسرائيليا وأميركيا ومرفوضة من الأمم المتحدة. وأسفرت عمليات الاستهداف المرتبطة بما يعرف بـ"مصائد المساعدات الأميركية الإسرائيلية" عن استشهاد وإصابة مئات من المجوعين منذ بدء هذه الخطة.

عن بداية "رحلة الموت" في ذلك اليوم، تروي: استيقظت عند 1:30 ليلًا، ارتديت ملابسي وأخذت شنطة فيها كيس طحين فارغ، وتركت الهاتف مضاءً، وقبّلت طفلي واستودعتهما وهما نائمان، ونزلت. مشيت بين الخيام في الظلام حتى وصلت الشارع، وفوجئت بشباب كثيرين جدًا يمشون، كان المكان مزدحمًا، مشيت خلفهم، فأنا أصلًا لا أعرف الطريق.

تضيف: كان هناك زحام وأناس يرجعون ويقولون: "ارجعوا، ارجعوا، هناك شهداء كثيرون"، لكني مضيت في الطريق حتى وصلت منطقة "فش فريش" جنوب غرب خانيونس.

بعد مستشفى الصليب الأحمر بدأت الخطوات تتباطأ -تتابع حديثها-مع التردد والحذر والخوف والقلق، وأناس تتوقف ولا تكمل، وآخرون يكملون. دخلت في وسطهم، بينما يعلو صوت الرصاص (الإسرائيلي) كالمطر، ونحن الذين نقترب ونتجه نحوه. مشينا قليلاً حتى وصلنا إلى استراحات على البحر على اليمين، وعلى اليسار أرض فارغة، وأناس كثيرون جالسون وممددون فيها.

واصلت نيفين المشي، لساعتين، ومع إطلاق النار الكثيف، ركض الشباب، وتدافعوا لدخول مبنى استراحة بحرية على ما يبدو، كل هذا حدث في ثوانٍ معدودة، والرصاص مستمر، الجميع يهرب ويدفعون من أمامهم.

وتفيد بأنها شاهدت فتاة تصرخ وتبكي، وامرأة أصابتها رصاصة في منتصف رأسها، والجميع كان جالسًا وسط خوف وألم وقهر وانكسار. امرأة شهيدة، ولا أحد قادر على الاقتراب منها، وإطلاق النار لم يتوقف لحظة.

تتنهد نيفين دون أن تجد وسيلة للتعافي من تجربتها المروعة، وتتابع: سمعنا صوت الطيران (الإسرائيلي)، لكن للأسف، إلى أين نختبئ؟ المكان مفتوح، يعني طيران، قناص، أين أذهب؟ زحام كثير من جميع الأعمار، ونساء كثيرات، بعضهن يحاولن إيجاد ساتر حماية.

وتقول: "في تلك اللحظة، كان كل تفكيري: إن لم أعد، من سيربي أولادي؟ من سيسأل عنهم؟ وليس معي جوال، بمن أتصل وأقول له: "أولادي أمانة في رقبتك"؟ وماذا سيفعلون؟ وكيف سيتقبلون الخبر؟ حين أذهب إلى الوكالة أو أي مكان، آخذهم معي، أقول: "إذا مت، نموت كلنا، لا أتركهم". حينها، نزلت دموعي، وبدأت أدعو الله أن يكتب لي عمرًا من أجل أولادي، ليس من أجلي، وأتشاهد. الموت حاضر، لا مهرب".

وتتابع: بدأ القنص، رأيت أحدهم يسقط، وأناس كثيرون مرميون على الأرض، وعلى الشارع، هناك من ينزف ومن خرجت روحه إلى خالقها.

وإضافة إلى إطلاق النار -تقول نيفين- المفاجآت لا تنتهي، شباب يركضون، يقولون: "هناك دبابة"، وأنا مكشوفة، وكل خطوة تقابلها رصاص. هناك شاحنة مقصوفة، نساء ورجال يختبئون خلفها. جلست دقائق معدودة بجانب مجموعة من النساء، حتى قالوا: "فُتحت المراكز... الساعة الخامسة"، والجميع ركض، وأنا أركض وسط الركام، بيوت مقصوفة، حجارة، حديد، خراطيم، شوك... ركضت، حتى تعثّرت وسقطت على وجهي، ثم وقفت وأكملت الركض.

تضيف: "بدأت نبضات قلبي تنادي: "الرحمة من عندك، يا رب تعبنا..." بعد هذا كله، وصلت إلى الأمريكيين. نساء ورجال يلتقطون المعكرونة والحمص من الأرض، حيث تمزقت الكراتين والأكياس. يا إلهي، إلى هذا الحد؟! يأكلون مما تحت أقدام الناس؟! يا الله، إلى هذا الحد وصلنا؟ مجموعة تمسك طاولة حديد، يريدون العودة بشيء، وهناك من يجمع كراتين فارغة ليشعل بها نارًا... اسمه "عاد بشيء".

وبعد كل ما عانته، كانت الصدمة: وصلت إلى حيث يقف الأمريكيون. رأيتهم، واقتربت من أحدهم، وقلت له بإنجليزيّتي المكسّرة: "I hungry, my children hungry (أنا جائعة، أطفالي جائعون). فقال: "(غدا.. انتهى) Finish. Tomorrow". فقلت له: "Three days! Finish, finish, finish!" (ثلاثة أيام، انتهى، انتهى، انتهى!)، (مرتين ذهبت الساعة 6 صباحًا، وفي نصف الطريق يقولون أُغلقت المراكز، وأعود). وصوتي مخنوق، والدموع متجمدة في عيني، وألوّح بيدي وأقول: "Finish!"، وكرر نفس الكلمة التي لا يغيرها: "Tomorrow".

عندها، ردت عليه: "The people in the street, killed, killed, killed!" (الناس في الشارع يُقتلون)، ورفعت ثلاثة أصابع، والسبابة والإبهام كأنها مسدس، ووضعتها على رأسها، كأنها تمثّل جريمة قتل. فنظر إلى الأرض، وقال لها أيضا: "Sorry, tomorrow".

بحسرة ومشقة، تتابع: خفضت رأسي إلى الأرض، ومشيت، وفي داخلي صرخة أريد أن يسمعها العالم: أريد طعامًا لأطفالي، إنهم مجوعون. لماذا يحدث لنا كل هذا؟ ما هي مشكلتنا؟ لماذا نُوضع في المفرمة ويقطعون لحمنا؟ ما نهايتها؟ تعبت، الحمل ثقيل... كنت أضع (المنديل) على أنفي وعينيّ كي لا يرى أحد دموعي. طبعًا، كل هذا وسط رذاذ الفلفل والغاز.

وتروي أنها شاهدت نسوة يخاطرن ببسالة بمحاولة انتشال جثامين شهداء، رغم تهديد الاحتلال.

ووفق شهادتها، ينتشر في مناطق توزيع المساعدات تحت سيطرة الاحتلال من وصفتهم بـ"البلطجية" بأسلحة بيضاء.

ويرعى جيش الاحتلال عصابات منظمة لنهب المساعدات في غزة، وقد اعترف رسميا بتمويلها وتسليحها وتوفير الحماية لها أثناء تنفيذ عملياتها.

ويعرقل الاحتلال تأمين ما يسمح بدخوله من مساعدات شحيحة في غزة عبر استهداف رجال الشرطة، التي أكدت في بيانات عدة عزمها على مواصلة أداء مهامها في خدمة المواطنين، رغم الاستهدافات الإسرائيلية الممنهجة. ويسعى الاحتلال أيضا إلى إفشال محاولات العشائر تأمين المساعدات، ضمن سياسة متعمدة لإحداث حالة من الفوضى، وفق مراقبين.

نجت نيفين من الموت بأعجوبة وعادت خالية الوفاض: وصلت، قدماي لا تحملاني، ولا أستطيع الوقوف، سيغمى عليّ، لم أفطر، ودوخة، ولم أنم إطلاقًا. دخلت، وأولادي ركضوا إليّ: "ماما جاءت!"، حضنوني وقبلوني. عمران قال: "أين كنتِ؟ استيقظنا ولم نجدك! إلى أين ذهبتِ؟!". مالك قال: هل كنتِ في عيادة الوكالة تكشفين؟" وأنا أنظر إليهم ولا أعرف ماذا أقول... قلت لهم: "ماء، شربت زجاجة ماء"، ووقعت على الفرشة.

تتابع: لا أعرف ماذا أقول لهم... رأيت الموت، والله كتب لي عمرًا من أجلهم. رأيت بشرًا مرميين على الأرض، لو كانت قطة، لها حرمة، فكيف بإنسان شهيد أو مصاب ينزف؟

وتتمم حديثها: عندما علم طفلاي أنني عرضت نفسي للخطر، لاما نفسيهما لأنهما أفصحا عن حاجتهما للطعام، وقررا أن يستسلما للتجويع، على ألا يصيبني سوء.

 فلسطين أون لاين