الدكتور صلاح الحمايده
هناك أطباء لا تصنعهم الجامعات، ولا تربيهم المناهج، بل تصنعهم الحياة نفسها، بلياليها الطويلة، وبآلامها الخفية، وباللحظات التي يختبر فيها الإنسان حقيقته. هؤلاء نادرون، يولدون وفي قلوبهم سرّ يجعلهم يشعرون بكل وجع قبل صاحبه، ويبكون قبل المرضى وبعدهم، ويحمّلون أنفسهم آلام الآخرين كما لو كانت آلامهم الخاصة. ومن بين هؤلاء القلائل، تمشي الدكتورة فادية أبو عيشة، ليست طبيبة نسائية فحسب، بل أم ثانية، ورفيقة درب لكل وجع، وقطعة من الرحمة تمشي على الأرض.
من يفتح باب عيادتها لا يدخل غرفة طبيب، بل يدخل بيتًا يسع القلوب الضيقة، حيث لا صوت لأجهزة طبية، بل صوت قلبها يهمس: “أنا معك… لن تكوني وحدك.” دموع الخوف على وجوه النساء تُثقل قلبها أكثر مما تثقل صاحباتها، وكل ارتجاف في يد أو روح كانت تؤلمها قبل الجسد.
هي لا تنام... لأن مريضتها لا تنام.
هي لا تبتسم... إلا حين ترى الألم يغادر.
هي لا تفكر في مال... بل تفكر في دعوة صادقة تصعد من قلب موجوع.
دخلت إليها امرأة شابة، ملامحها شاحبة، ودموعها لا تتوقف. جلست أمامها وقالت بصوت مرتجف: “أنا خائفة... لن أحتمل.”
اقتربت الدكتورة فادية منها، أمسكت بيدها بقوة، ثم وضعتها على قلبها وقالت: “اسمعي... هذا القلب معك، لن تواجهي شيئًا وحدك.”
في لحظة، انكسرت جدران الخوف. المرأة التي دخلت تبكي... خرجت تبتسم. لم يكن علاجها وصفة مكتوبة، بل دفء إنسانة جعلت من يديها ملاذًا، ومن كلماتها أمانًا.
وفي صباحات لا تعرف الشمس فيها معنى الدفء، كانت تنتظر على باب المستشفى امرأة دخلت المخاض وحدها، وكانت أول من يلمس يدها، ويهمس: “كل شيء سيكون بخير، أنا هنا.” حين خرجت تلك الأم وابتسمت لرؤية طفلها الأول، شعرت فادية وكأن قلبها قد انفتح على الفرح الذي يُعيد إليها الحياة
في تضحياتها لا تعرف حدودآ وفي ليالي الشتاء القاسية، حين يختبئ الجميع خلف جدرانهم الدافئة، كانت هي تخرج من بيتها تاركة أبناءها بين الوسائد والبطانيات، تجري مسرعة في عتمة الطرقات نحو مستشفى أو غرفة ولادة. ما حسبت حسابًا للوقت، ولا للراحة، ولا حتى لجسدها المنهك. حسبت فقط أن هناك روحًا تستنجد بها، وأن كلمة “تعالي” أكبر من أي شيء آخر.
كم مرة وضعت معطفها فوق مريضة ترتجف...
وكم مرة أخفت دمعتها خلف ابتسامة كي لا تزرع الخوف في قلبٍ مرتجف...
وكم مرة عادت إلى بيتها منهكة، لكنها وجدت في دعوةٍ واحدة شفاءً لقلبها المرهق.
ولم تكن وحدها في هذا الطريق، فقد شاء الله أن يضع إلى جانبها زوجًا طبيبًا، يشبهها في الروح والرحمة. اجتمعا على ميثاق غير مكتوب: أن يجعلوا الطب رسالة، وأن يحملا وجع الناس معًا. هو يكمّلها، وهي تكمّله، حتى غدوا مرآة لبعضهما، يعيشان من أجل أن يعيش الآخرون، ويزرعون في بيتهم وفي قلوب أبنائهم أن الحياة الحقيقية هي في خدمة الناس.
ومن الأردن، خرج اسم الدكتورة فاديه ابو عيشه مسافرًا بلا جواز ولا حدود، يردده المرضى القادمون من بلاد أخرى: “هناك طبيبة، هناك قلب يُشعرك أنك لست وحدك.” صار اسم فادية أبو عيشة علامة من نور، يتداولها الناس كما يتداولون الأخبار المفرحة، ويرفعونها في دعواتهم كما يرفعون الأيادي للسماء.
لم تكن يومًا طبيبة عابرة، بل رفيقة للداخل، وملجأ للخائف، وابتسامة في حضرة الألم. لم تكن يومًا تبحث عن المجد، لكن المجد لحق بها لأنها جعلت من الطب حكاية حب ووجع مشترك.
في هذا الزمن القاسي تبقى الدكتورة فادية أبو عيشة وزوجها الدكتور اسامه طبيل شاهدين أن الإنسانية لا تموت، وأن هناك قلوبًا تُضيء الطريق كالمصابيح في ليالي الشتاء الطويلة. ومن يدرك قيمة التضحية، يدرك أن بعض الأسماء لا تُكتب على الورق فقط، بل تُكتب في القلوب والدموع والدعوات.