اقتصاديات الذكاء الاصطناعي

mainThumb
اقتصاديات الذكاء الاصطناعي

04-10-2025 01:14 PM

printIcon

بقلم: أ.د. خالد واصف الوزني
أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية

اعتمد علم الاقتصاد منذ نشأته ثلاثة عوامل/عناصر أساسية للإنتاج هي الأرض، والعمل، ورأس المال. بيد أنَّ ذلك تطوَّر مع بدايات القرن المنصرم ليشمل التنظيم أو ريادة الأعمال، وذلك عبر مساهمات عالِمَيْن هما فرانك نايت وجوزيف شومبيتر. ما يشهده الاقتصاد العالمي اليوم من تحولات تقنية عميقة تفرض التفكير بإدخال عامل جديد إلى عوامل، أو عناصر الإنتاج، وهو «الذكاء الاصطناعي». فكما كان مبرر دخول عنصر التنظيم إلى عناصر الإنتاج للتعبير عن أهمية إدارة وتنسيق الموارد، وإدارة المخاطر، والابتكار والتجديد، فإنَّ إدخال الذكاء الاصطناعي كعنصر مُمَكّن ومحفِّز لعمل العناصر الأربعة السابقة، ومُعزِّز لمستوى إنتاجيتها وأدائها له ما يبرِّره. وفي هذا السياق تشير تقديرات المؤسسات الدولية إلى أنَّ الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحقِّق إضافة نوعية إلى الاقتصاد العالمي حتى العام 2030، لتصل مساهمته إلى نحو 15 تريليون دولار، وهي إضافة تكاد تعادل ما يضيفه اقتصاد ضخم بحجم اقتصاد الاتحاد الأوروبي. وقد أشارت بعض الدراسات إلى أنَّ استخدام الذكاء الاصطناعي رفع من مستوى الإنتاجية الكلية للعديد من الصناعات وبنسب وصلت إلى نحو 60%.

ومن ناحية أخرى، ما يشهده العالم اليوم يشكِّل تحوُّلاً جذرياً في مكوّنات وطبيعة وهيكلية العملية الإنتاجية في كافة القطاعات الاقتصادية الصناعية والزراعية والخدمية؛ فقد أصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً مهماً في اتخاذ القرارات، وفي تبسيط الإجراءات والعمليات، وفي إدارة سلاسل التوريد، ناهيك عن أهميته الكبرى في استجلاب التطبيقات المُثلى، وفي التنبُّؤ بالأسواق. بيد أنَّ المقلق في إدخال هذا العنصر المهم إلى عناصر الإنتاج أمران؛ الأول أخلاقيات الاستخدام، والثاني تحديات المزاحمة في سوق العمل. ففي مجال الأخلاقيات طفقت العديد من دول العالم المتقدم نحو وضع تشريعات تضمن الاستخدام النزيه والشفّاف لتطبيقات وأدوات الذكاء الاصطناعي. فقد اعتمد مجلس أوروبا في 2024 اتفاقية إطارية تؤكِّد أنَّ استخدام الذكاء الاصطناعي يجب أن يحترم الحريات الأساسية وسيادة القانون.

وفي الاتحاد الأوروبي، تمَّ إقرار قانون الذكاء الاصطناعي الذي يقسّم تطبيقاته طبقاً للمخاطر، ويُلزم المصمّمين بمعايير شفافية ومساءلة، بينما في إيطاليا تمَّ إقرار تشريع وطني شامل يُراعَى فيه الاستخدام الآمن والشفّاف لتقنيات الذكاء الاصطناعي. أمّا في مجال المزاحمة في سوق العمل، عبر سيطرة تقنيات الذكاء الاصطناعي على العديد من الوظائف، ما أدّى، وسيؤدّي، إلى اختفاء العديد من الوظائف التقليدية في كافة القطاعات، بينما تشير الدراسات إلى أنَّ وظائف عديدة أيضاً سوف تنشأ، وهي الوظائف التي تتطلَّب مهارات عالية في تحليل البيانات، وبرمجة الخوارزميات، وتطوير الحلول الذكية؛ بل إنَّ هناك موجة من الوظائف الهندسية التي بدأت بالظهور والتطوُّر وفي مجالات جديدة ستكون الرائدة في تطوير عمل كافة القطاعات الاقتصادية. وهذه هي: هندسة البيانات، وهندسة التعليمات، أو هندسة الكتابة التقنية للذكاء الاصطناعي، أو ما يُعرفPrompt Engineering، وكذلك هندسة الأوامر والتوجيهات التقنية، وهندسة المدخلات التقنية. هذا التغير يفرض تحدياً على السياسات العامة، إذ لم يَعُد الأمر مجرَّد استحداث فرص عمل جديدة، بل إعادة تأهيل قوة العمل القائمة، وتوجيه السياسات نحو استشراف مستقبل التعليم بكافة مراحله المدرسية، والمهنية، والجامعية. والسؤال المطروح في النهاية هو: أين تقع الاقتصادات العربية من كل ذلك، هل ستبقى في مقعد المستهلك، في حين يُنتِج لها العالم كلَّ شيء؟ أم تتحوَّل إلى منتِج ومُصدِّر للذكاء الاصطناعي وتقنياته في كافة القطاعات؟ من المهم القول إنَّ كلاً من دولة الإمارات والسعودية وقطر تقدَّمت خطوات مهمة في هذا المجال عبر وضع استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي، لكن التحدي الأكبر أمام المنطقة ككل يبقى في بناء القدرات البشرية المحلية القادرة على الإبداع، وليس التشغيل فقط. إنَّ دمج الذكاء الاصطناعي في معادلة الاقتصاد والإنتاج العربي يمكن أن يعزِّز التنويع الاقتصادي، ويفتح آفاقاً لصناعات معرفية قادرة على المنافسة عالمياً. ولتحقيق ذلك، تحتاج الحكومات إلى إعادة هندسة توجُّهاتها في مجالات الاستثمار المكثَّف في التعليم النوعي، وفي تخصيص موازنات حقيقية للبحث العلمي، وفي تبنّي وتمكين الشركات الناشئة في هذا المجال.

الذكاء الاصطناعي لم يَعُدْ خياراً، ولا رفاهية، بل أحد أهمِّ ممكِّنات عناصر الإنتاج، فهو العامل أو العنصر الضروري والكافي لهيكلة إنتاجية كافة عناصر الإنتاج الأخرى، مَن يتأخر عن الاستثمار فيه اليوم، فقد يجد نفسه غداً على هامش الاقتصاد العالمي. المنطقة العربية الأقدر على توفير هذا العنصر، نظراً لطاقاتها الشبابية، ومكتنزها المعرفي، ولكن عليها أن تقرِّر ما إذا كانت ستبقى منطقة مُهَجِّرة للعقول، أم مُمَكِّنة ومستقطبة لها ومستفيدة من خبراتها؟