بقلم الأستاذ الدكتور المهندس يوسف الدرادكــة
يُشكّل يوم المعلّم محطةً سنويةً للوفاء والاعتزاز، وفرصةً لتجديد العهد تجاه أولئك الذين نذروا أنفسهم لحمل رسالةٍ إنسانيةٍ خالدةٍ، هي رسالة بناء الإنسان وصناعة الوعي وترسيخ القيم. فالمعلّم ليس مجرّد ناقلٍ للمعرفة أو مفسّرٍ للمناهج، بل هو مهندس العقول ومحرّك التنمية الفكرية والاجتماعية، وركيزة كل مشروعٍ حضاريّ يسعى إلى الارتقاء بالإنسان قبل البنيان.
لقد أثبت التاريخ أنّ كل نهضةٍ معرفيةٍ بدأت من مقعد الدراسة، وكل تحوّلٍ حضاريٍّ انطلق من عقل معلّمٍ مستنيرٍ آمن بأن بناء الأمم يبدأ من بناء الفكر. فالمعلّم يُعيد تشكيل الوعي الجمعيّ، ويزرع في طلابه قيم الإبداع والانتماء، ويُوجّه طاقاتهم نحو الابتكار والتميّز، جاعلًا من المعرفة أداةً للتحرّر والتنمية لا للحفظ والتلقين.
إنّ دور المعلّم في العصر الحديث لم يعد يقتصر على التعليم والتدريب، بل أصبح فاعلاً في إنتاج المعرفة وتوظيفها، وصانعًا للاتجاهات والقيم، ومشاركًا في رسم السياسات التعليمية والمجتمعية. إنه القائد الهادئ الذي يبني الأجيال من الداخل، لا بالشعارات، بل بالمثال، ولا بالخطابة، بل بالقدوة، يغرس القيم قبل أن يُلقّن الدروس، ويُشعل الحماس قبل أن يزرع المعلومة.
وفي زمن الثورة الرقمية والتحولات المعرفية السريعة، تتضاعف مسؤولية المعلّم في تحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، وبين التقنية والقيم. فالمعلّم اليوم هو من يقود التغيير الواعي، ويُعيد صياغة العملية التعليمية لتكون منصّةً للتفكير النقديّ والإبداع، لا مجرد وسيلةٍ لنقل المعلومات. وهو الذي يُوجّه الطالب نحو بناء ذاته، لا نحو اجتياز الامتحان، فيغدو التعليم تجربةَ حياةٍ، لا مرحلةً مؤقتةً من العمر.
إنّ تمكين المعلّم وتطوير قدراته المستمرّة يُعدّ استثمارًا استراتيجيًا في مستقبل الوطن، لأنّ جودة التعليم لا تُقاس بالمناهج وحدها، بل بكفاءة المعلّم الذي يُفعّلها، وبروح القيادة التي يحملها في الميدان. لذا، فإنّ دعم المعلّم وتقدير جهوده وتوفير بيئةٍ مهنيةٍ محفّزةٍ تُعدّ من أولويات أي نظامٍ يسعى إلى الريادة العلمية والتنمية المستدامة.
وفي يوم المعلّم، نُجدّد العهد لكل من أخلص في أداء رسالته، وجعل من القلم جسرًا نحو الوعي، ومن التعليم طريقًا نحو الكرامة الإنسانية.
تحية إجلالٍ لكلّ معلّمٍ علّم بعقله، وألهم بروحه، وبنى بفكره صروح الوعي في نفوس الأجيال... ونختم بأن كل مرحلة من مراحل تطور الأمم والشعوب وراءها قلم وفكر معلم...!!!