أخبار اليوم - "كل معتقل فلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 هو مشروع شهيد"، بهذه القناعة تحرر الأسير الطبيب أحمد مهنا الذي اعتقله الاحتلال الإسرائيلي وهو على رأس عمله مديرا لمستشفى العودة في جباليا شمال قطاع غزة.
وتُمعن دولة الاحتلال في التعذيب الممنهج للمعتقلين نفسيا وجسديا، وسط ممارسة سياسة الإهمال الطبي. يؤكد مهنا أن الرعاية الصحية كانت معدومة تماما، ونتيجة ذلك فقد عدد من زملائه أرواحهم، وكانوا في ريعان الشباب ولا يعانون أي أمراض مزمنة أو مشاكل صحية، وخلال جولة لمدير السجن طالبوه بتحسين الرعاية الصحية فأجاب بكلمة واحدة: موتوا.
تحرر مهنا (52 عاما) من سجون الاحتلال ضمن صفقة تبادل الأسرى في 13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ضمن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، بعد 686 يوما في الأسر قضاها متنقلا بين عدة سجون.
خندق الصمود
والطبيب مهنا هو أخصائي تخدير وعناية مركّزة، وكان مديرا لمستشفيات العودة التابعة لجمعية العودة الصحية والمجتمعية في غزة قبل اعتقاله، وبعد تحرره تولى منصب مدير البرامج في الجمعية.
ورفض مهنا النزوح، وآثر الصمود والبقاء في المستشفى، لأداء رسالته الإنسانية في خدمة الجرحى والمرضى، رغم موجة النزوح الواسعة من مدينة غزة وشمال القطاع في الأسبوع الأول من اندلاع الحرب.
وعن عدم نزوحه يقول مهنا "لأن هذا واجبي الإنساني تجاه أبناء شعبي في هذه المحنة، وفي الحرب الضروس والقتل المنظم، وآثرت عدم الإصغاء لنداءات قوات الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء المستشفى".
ويضيف أنه حينها، كان المستشفى يعجُّ بالجرحى والمرضى الذين يخضعون لعلاجات مكثفة ولعمليات جراحية، والأعداد كانت تتزايد يوما بعد آخر، وبدأت المستشفيات في الشمال تخرج عن الخدمة، والمنظومة الصحية تنهار، فقرر الصمود في خندقه بمستشفى العودة مع طواقم كاملة من جمعية العودة الصحية والمجتمعية لم يغادر منهم أحد.
ورغم أجواء الرعب وقلة الإمكانيات، اجتهد الأطباء في شمال قطاع غزة قدر ما استطاعوا، وأبلوا بلاء حسنا، ويعتقد مهنا أنهم أجروا أكثر من 400 عملية تثبيت جهاز خارجي للعظام -وهذا رقم ضخم بالنسبة لمستشفى صغير سعته السريرية 80 أو 85 سريرا- وسيطروا على الحالة الصحية إلى حد كبير.
اعتقال قاس
واستدعى الواقع الصعب داخل المستشفى المحاصر من الدكتور مهنا القيام بمهام أخرى إلى جانب مهنته كطبيب، فكان يشارك بتوزيع الطعام على الجرحى والمرضى والطواقم الطبية والإدارية والنازحين، ويقول "كانت الموارد محدودة جدا، والطحين شحيح، والاحتلال يحيط بنا ويحاصرنا، ولا يوجد في الأسواق أي من المواد التموينية، ولابد من الترشيد في الطعام والوقود لمنع الانهيار".
ونجح مهنا في ذلك لـ72 يوما، يصفها بأنها "مرهقة بشكل جنوني"، حتى أطبق الاحتلال حصاره على مستشفى العودة في 16 ديسمبر/كانون الأول 2023، واستمر أياما، "وطالبني بالخروج والوقوف عاريا بملابسي الداخلية فقط، وقادني الجنود إلى بيت تحصّنوا فيه بجوار المستشفى، وقضيت ليلة صعبة".
ويضيف أن ضباطا من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية اقتادوه في الصباح للمستشفى، وحققوا مع الجميع من طواقم طبية وجرحى ومرضى ومرافقيهم.
وإثر هذا التحقيق القاسي والمهين اعتقل الاحتلال مهنا، ضمن 13 آخرين، منهم 4 موظفين في مستشفى العودة، واقتادوهم إلى منطقة معبر إيرز (بيت حانون) شمال القطاع، ومنها إلى مراكز تحقيق تابعة لجيش الاحتلال في منطقة غلاف غزة، ومكث هناك 24 يوما متواصلة، مكبلا بالأصفاد ومعصوب العينين، "لم أرَ خلالها الضوء"، يضيف مهنا.
وخضع الطبيب مهنا لـ12 جلسة تحقيق، كانت قاسية، أقلها ساعتان وأكثرها 8 ساعات متواصلة، وتنقّل بين 3 سجون في ظل ظروف سيئة للغاية، قضى فيها 22 شهرا بواقع 686 يوما، "كانت مليئة بالعذاب النفسي والجسدي والإمعان في استهداف الروح المعنوية لدى المعتقلين، إضافة إلى التجويع الممنهج وسوء التغذية، وفقدنا كمعتقلين بين 20 و80 كيلوغراما من أوزاننا".
فبركة التهم
ووجّه الاحتلال للدكتور مهنا 5 تهم:
عدم الانصياع لأوامر الجيش بإخلاء المستشفى.
الإساءة لدولة إسرائيل في المحافل الدولية عبر التصريحات الصحفية.
وجود مسلحين داخل المستشفى.
علاج من يصفهم الاحتلال بالمخربين ويقصد بهم "عناصر المقاومة".
علاج أسرى إسرائيليين.
ويؤكد مهنا أن كلها اتهامات كاذبة، نفاها ولم يقر بها، ورغم ذلك قررت المحكمة تمديد اعتقاله 6 أشهر في أول جلسة، و6 أشهر أخرى في المحاكمة الثانية، بدعوى أنه يشكل خطرا على أمن دولة إسرائيل، ومثلها في الجلسة الثالثة، واتهموه بالانتماء إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ووصفتها المحكمة بالمنظمة الإرهابية، ثم اتهموه بالانتماء لمنظمة إرهابية ثانية، هي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومددوا اعتقاله 6 أشهر أخرى.
القتل المباشر
وحول ما إذا كان تعامل الاحتلال مع الأطباء المعتقلين مختلفا عن غيرهم، يوضح الدكتور مهنا أن الأطباء والممرضين والعاملين في الطواقم الطبية مستهدفون بشكل خاص، وكانوا يخضعون لجلسات تعذيب وتدمير نفسي، ويعانون الأمرين خلال التحقيق، وخاصة في سجن عوفر بالضفة الغربية.
ويشير إلى أن صديقه الدكتور الشهيد عدنان البرش، رحمه الله، اعتقل برفقته من مستشفى العودة، حيث كان متطوعا في قسم العظام بعد إخلاء مستشفى الشفاء بمدينة غزة، وكان له دور فاعل، "وسمعت الخبر المأساوي الأليم أنه استشهد جراء العنف والتعذيب".
ووفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، قتل الاحتلال الإسرائيلي خلال عامي الحرب 1670 من الأطباء وأفراد الطواقم الطبية، وجرح مئات آخرين، واعتقل أكثر من 300 طبيب وكادر طبي استشهد عدد منهم داخل السجون جراء التعذيب الشديد.
وأُخرجت 38 مستشفى عن الخدمة ومئات مراكز الرعاية الصحية، سواء بالتدمير المباشر أو باجتياحها ووقوعها في نطاق المناطق المحتلة في أنحاء القطاع.
ويقول مهنا إن الاحتلال عاملهم بعنف واستهداف ممنهج اعتقادا منه أن لدى الأطباء معلومات قد تقوده إلى الأسرى الإسرائيليين، و"هي افتراضات كاذبة، فنحن أطباء نحمل رسالة إنسانية" كما يوضح.
ومرَّت بالدكتور مهنا حالة نفسية صعبة للغاية في الفترة الأخيرة من اعتقاله، ويضيف "كانت الكلمات التي أتفوه بها باليوم الواحد لا تزيد على 50 أو 60 كلمة، ولا أعلم ماذا كان سيحدث لي لو طالت فترة الاعتقال".
وعندما تحرر ورأى أسرته، واستقبال زملائه الحافل، عادت له صحته النفسية وهمته العالية، وقرر العودة والانطلاق من جديد، "سأواصل تأدية رسالتي الإنسانية وخدمة أبناء شعبي"، يؤكد مهنا.
الجزيرة