بقلم: أ.د. خالد واصف الوزني
أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
تشهد أسعار السلع الأساسية، وفي مقدمتها النفط والمعادن والمحاصيل الزراعية، موجة هبوط ملحوظة خلال عام 2025، حيث توقَّع البنك الدولي انخفاضاً عاماً في الأسعار بنسبة 12% هذا العام، و5% إضافية في 2026. ورغم أنَّ هذا التراجع قد يخفِّف من ضغوط التضخُّم عالمياً، فإنه يطرح تحديات كبيرة أمام الاقتصادات التي تعتمد بشكل كبير على تصدير هذه السلع، وفي مقدمتها معظم الدول العربية النفطية وغير النفطية. ويعود الانخفاض في أسعار تلك المواد إلى تراجع الطلب العالمي نتيجة التباطؤ الاقتصادي في الصين وأوروبا، الذي جاء نتيجة حالة الفوكا :VUCA التقلبات، وعدم اليقين، والتعقيد، والغموض، التي أفرزتها السياسات الحمائية والتوترات الناجمة عن الحرب التجارية العالمية القائمة اليوم، والتي أسهمت في تقييد حجم التبادل التجاري عالمياً. وقد يأخذ النفط هنا خصوصية أكبر؛ فقد بات في مهب رياح التغيير التي تحملها السياسات الترامبية، من جهة، ودخول بدائل الطاقة المتجددة بشكل ملحوظ، من جهة أخرى، ما قلَّل الاعتماد على النفط الأحفوري كمصدر رئيس لتوليد الطاقة، خصوصاً في أوروبا. وقد شهدت أسعار النفط العالمية انخفاضاً ملحوظاً وصل بين 17% و23% منذ بداية العام. يضاف إلى ذلك كله ما يشهده العالم من فائض في المعروض في بعض السلع الأساسية مثل الغاز الطبيعي والأسمدة المعدنية. والنتيجة الحتمية باتت واضحة للعيان، وذلك في انخفاض إيرادات النفط، وما يعنيه من تخفيض في الإنفاق الحكومي في منطقة الخليج العربي، خاصة أنَّ معظم ذلك الإنفاق بات بمثابة شريان تحريك خطط التنمية طويلة المدى، على غرار رؤية 2030 في السعودية، وغيرها من الخطط الواعدة في معظم المنطقة. وعلى صعيد آخر، فإنَّ انخفاض أسعار المواد الأولية في المعادن والصناعات الاستخراجية الأخرى سيُحمِّل الدول غير النفطية في المنطقة العربية الكثير من الأعباء، ليس فقط في تمويل النفقات الحكومية، ومعظمها جارية، بل في القدرة على خدمة الديون. مشكلة الاقتصادات الريعية أنها تعاني من الهشاشة بشكل كبير، لارتكازها على عائدات الصادرات من المواد الأولية في معظم الحالات. والسؤال المطروح عربياً هو: إلى أيِّ مدى تستطيع الدول العربية أن تعتمد على إمكاناتها في تحقيق قيمة مضافة حقيقية في تحويل المواد الأولية التي تكتنزها، وضمن مفهوم سلاسل الإنتاج؟ وهل لها أن تقوم بذلك دون تحديات سياسية؟ ولماذا تُصِرُّ العديد من الدول العربية على سهولة استخراج المواد الأولية، وتبتعد عن الجهد المطلوب لاستقطاب استثمارات، أو حتى تحويل الاستثمارات الضخمة خارج المنطقة إلى استثمارات حقيقية في القيمة المضافة لكافة أشكال الإنتاج الصناعي والزراعي، وحتى الخدمي؟ المطلوب عربياً أن تبدأ منظومة الدول العربية بوضع رؤى عشرية، وبعيدة المدى، على غرار الكثير من المبادرات النوعية التي رأيناها في معظم الدول العربية، لترتكز تلك الرؤى على تحوُّلات صناعية حقيقية، تركِّز على الصناعات التحويلية ذات القيمة المضافة العربية، الوطنية والبينية، اعتماداً على الطاقات الكامنة الكبرى في المنطقة العربية، في مجالات النفط، والطاقة المتجددة، وخصوبة الأراضي الزراعية، وتوافر الطاقات الشبابية القادرة على توظيف مختلف أشكال الثورة الرقمية القائمة. صنّاع القرار العربي مطالبون بصياغة استراتيجيات وطنية قائمة على التحوُّل من الريع وسهولة تحصيله، إلى القيمة المضافة بتعقيداتها النوعية، وعوائدها الهائلة. استسهال الحصول على المال يضخِّم الجيوب أحياناً، ولكنه يجفِّفها في الكثير من الأحيان الأخرى. المنطقة العربية زاخرة بالمواد الخام القابلة للتحويل إلى صناعات ذات قيمة حقيقية كبرى، والمطلوب، قُطرِياً وإقليمياً، صحوة من سبات الريع إلى فضاء القيمة المضافة الضامنة للاستدامة، والاستقلالية، والتوسُّع في الأسواق المحلية والإقليمية والعالمية. وختاماً، رغم أنَّ تراجع أسعار المواد الأولية يشكِّل تحدياً للاقتصادات العربية، فإنه قد يكون محفِّزاً لإعادة هيكلتها بعيداً عن الاعتماد المفرط على الموارد الطبيعية. والرهان اليوم هو على مدى قدرة الحكومات على اغتنام هذه الأزمة لإحداث تحوُّلات هيكلية حقيقية تؤمِّن مستقبلاً اقتصادياً أكثر استدامة للأجيال الحالية والقادمة.
khwazani@gmail.com