أخبار اليوم - كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، حين كان سكان بيت لاهيا شمالي قطاع غزة يستعدون للخلود إلى نومٍ متقطع في بيوت أكلتها الحرب الإسرائيلية، قبل أن تنقلب البلدة إلى جحيم مفتوح.
السماء كانت تمطر نارًا، والأرض تهتز تحت وقع القذائف، وصوت الطائرات المُسيَّرة يلاحق من يحاول النجاة. تلك الليلة كانت أقرب إلى مجزرة مفتوحة، حيث التهمت الغارات والرصاص حياة الناس وأمنهم وأحلامهم.
كفيف تحت القصف
في منزله المُدمَّر بحي العطاطرة، جلس الحاج نعيم العطار، وهو كفيف في السبعينيات من عمره، على كرسيه المهترئ، يستعد لشرب كوب من الشاي مع زوجته.
كانت لحظة نادرة من الهدوء، لحظة فيها شيء من الحياة التي اعتاداها قبل الحرب، لكن تلك اللحظة سرعان ما تمزقت تحت وابل من القذائف.
لم يكن العطار يرى ما يحدث، لكنه سمع صوتًا كالزلزال، ثم بدأت الجدران تتساقط فوق رؤوسهم.
"شعرت بالحطام ينهال عليّ، والغبار يخنق أنفاسي. سقط أحد الأعمدة بجانبي، وظننت أنها النهاية"، يقول الرجل المُسن لـ "فلسطين أون لاين".
كان المنزل الذي يسكنه مدمّرًا أصلًا بفعل قصف إسرائيلي سابق، لكنه ظل يأويهما رغم الشروخ في جدرانه والأسقف المتهاوية.
نقله أحد الجيران إلى بدروم البيت، وهناك بقي لساعات تحت القصف الذي لم يتوقف جوًا وبرًا وبحرًا، قبل أن يحمله مرة أخرى ويبدأ معه رحلة الهروب سيرًا على الأقدام.
"سقطت أنا وزوجتي أكثر من مرة في الطريق. لم نكن نعرف إلى أين نذهب. كنا نهرب من الموت إلى الموت. القصف لم يتوقف، والكوادكابتر تحوم وتطلق النار على كل ما يتحرك. صوتها مرعب، كأنها تلاحق أنفاسك".
اليوم، يعيش الحاج نعيم في خيمة من النايلون مع أحد أبنائه، وقد فقد ثلاثة من أفراد عائلته خلال الحرب:
"استُشهد ابني سفوان (35 عامًا) في 9 أكتوبر 2023، ثم ابني سامي (30 عامًا) في يونيو الماضي، ثم لحقتهما ابنتي في نوفمبر. لم يتبقَّ لي شيء.. حتى البيت لم يعد هناك. فقط خيمة وذاكرة مثقلة بالحزن".
الخروج من النار
وفي الحي ذاته، كانت عائلة تيسير التوم تعيش كابوسًا مماثلًا. الرجل الخمسيني كان يجلس بين أبنائه وأحفاده العشرين يحاول طمأنتهم، قبل أن تُسحق الطمأنينة تحت وقع القصف المُباغت.
قصفت الطائرات منازل الجيران من عائلتي السلطان والسيد، على جانبي بيته، وسرعان ما تحوّل المكان إلى كومة من الركام والأشلاء.
يروي تيسير لـ "فلسطين أون لاين" تفاصيل تلك الليلة: "رأينا ألسنة اللهب تتصاعد من منزلي الجيران.. انهارا فوق ساكنيهما. كنا محاطين بالنار من كل الجهات. لم نكن نملك سوى الهرب".
ويضيف: "عشت أسوأ لحظات عمري في تلك الليلة. الحي كله دُمّر جراء القصف العشوائي. ثلاثون شخصًا على الأقل استُشهدوا في محيطنا، بعضهم ما زال تحت الركام. إحدى السيارات التي حاولت التحرك قُصفت بمن فيها. الاحتلال كان يقصف كل شيء يتحرك".
"كنا جائعين وعطشانين وخائفين. كل شيء يُقصف، كل من يتحرك يُستهدف. هذه كانت أصعب ليلة عشناها منذ بداية الحرب، والأسوأ أننا الآن نعيش بلا مقومات حياة.. لا شيء، حرفيًا".
"عشنا قبل هذه الليلة أحزمة نارية كثيرة، لكن لم يكن شيء مثل هذا. القصف جاء من كل اتجاه. لم نعد نفرّق بين نهار وليل. كانت الليلة الأطول، والأكثر رعبًا".
في اليوم التالي، عاد التوم إلى منزله رغم القصف ليبحث عن شيء يسد به رمق الأطفال أو بعض أمتعته:
"أصبحنا نعيش على الأمل، لا شيء آخر. لا ماء، لا طعام، لا أمان.. فقط خيام وبرد وخوف متواصل. نموت كل يوم مئة مرة".
أم تحت القصف
في زاوية أخرى من حي العطاطرة، كانت الشابة تسنيم العطار، في العشرينيات من عمرها، تصارع هول اللحظة بطريقتها.
حملت طفلها الصغير إلى صدرها وهربت من منزلها بعد أن بدأت المدافع تصب نيرانها من كل الاتجاهات.
"كنت في البيت، أحمل طفلي، وفجأة بدأت الانفجارات. سقط منزل جيراننا على رؤوس ساكنيه. أصوات الصراخ، رصاص القناصة، إطلاق النار من الكوادكابتر.. كل شيء كان مرعبًا"، تصف تسنيم لصحيفة "فلسطين" تلك الليلة.
لم تتمكن تسنيم من جمع أي شيء. خرجت بملابسها، تركض في الشارع وهي تحتضن صغيرها. تقول:
"خرجنا نركض في الشارع، لا نعرف إلى أين. قضينا ليلتنا على الرصيف، في العراء. الخوف كان يقتلنا، وصوت الدبابات كان يصمّ الآذان. كنت أشعر أن روحي ستخرج من مكانها في كل لحظة".
تعيش تسنيم اليوم في خيمة بلاستيكية مع عائلة والدها، فيما لا تزال عائلة زوجها تبحث عن مكان يؤويهم.
"كل شيء ضاع.. المنزل، الأمان، حتى الروح. كل لحظة جديدة أشعر أنني على حافة الموت. لم نعد نتحمّل المزيد"، تختم حديثها.
المصدر / فلسطين أون لاين