أخبار اليوم - يتّصل مطلب نزع سلاح المقاومة الفلسطينية بأهداف الاحتلال في غزّة، وفي مقدمتها إسقاط حكم حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وتفكيك بنيتها العسكرية. ومن زاوية أخرى، هو واحد من مكوّنات استراتيجية (إسرائيل) خلال الحرب ضدّ جبهات تشمل حدودها كلّها، وتستهدف فيها القوى التي تعتبرها مناوئةً، وتسعى إلى تدمير بنيتها، وشلّ فاعليتها العسكرية والسياسية. وهو تعبير عن تحوّل واضح في سياسة الاحتلال بعد 7 أكتوبر (2023)، فهي سياسة انتقلت من تحييد واحتواء ومحاصرة تنامي المقاومة إلى نهج تدميرها. بهذا المعني، ليس نزع السلاح مجرّد مطلب أمني لإعادة الاستقرار وإنهاء الحرب، لكنّه وثيق الصلة بفرض هيمنة إسرائيل وتوسيع نفوذها، وتكريس وضع إقليمي جديد، وردع (وتهديد) الأطراف كلّها، سواء من الجماعات أو الدول، لإحداث استقرار أمنى طويل نسبياً لإسرائيل، مع محاصرة التسلّح عموماً، وضمان تفوّقها العسكري، وهذا لن يتحقّق إلا بمفهوم النصر الحاسم، وضمنه نزع سلاح المقاومة، الذي تصفه "حماس" بوثيقة استسلام مرفوضة.
ويجري اليوم طرح العدو الإسرائيلي نزع السلاح شرطاً لوقف العدوان، في ظلّ جرائم ضدّ المدنيين وضغوط إنسانية هائلة، في ردّ انتقامي وعقاب جماعي يعتبرهما الاحتلال وسيلتي ضغط على حركة حماس، ويشير المستوى السياسي (نتنياهو وشركاؤه) إلى أن المواجهة شاملة، وتطاول المشاركين والمساندين للمقاومة في المنطقة، وتهدف إلى تأمين حدود إسرائيل، وصولاً إلى تغيير خريطة الشرق الأوسط توجّهاً استراتيجياً، وهو خيار يستلزم تفكيك القدرات العسكرية للمقاومة، وتوسيع دائرة التطبيع، وتهميش القوى التقليدية في الإقليم، لمصلحة قيادة الاحتلال، ودمج أطراف منها في تحالف إقليمي جديد. ويتبنّى المستوى العسكري، هذه الرؤية أيضاً بشكل متطابق، بعدما أصبح نزع السلاح منذ "7 أكتوبر" هدفاً مركزياً لعملية السيوف الحديدية، ومختلفاً عما طُرح سابقاً بعد عمليتَي الجرف الصامد وحارس الأسوار، وتسوّق هذه الرؤية أيضاً ضماناً لإعادة الإعمار.
وينظر إلى نزع السلاح وإزاحة فصائل المقاومة ضرورةً أمنيةً، فيعتبر أيّ وجود عسكري في محيط دولة الاحتلال تهديداً محتملاً، ووُظِّف ذلك للعدوان على مزيد من الأراضي في سورية ولبنان، ما يشيع بيئةً أمنيةً مواتيةً لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية، والضغط للقبول بالأمر الواقع، والبلدَان في وضع سياسي هشّ، إلى جانب أزمة اقتصادية عميقة، غير تداعيات العدوان عليهما، ما يؤهّل إلى حدوث توتّرات داخلية. وهذا الضعف العام، سمح بدخول أطراف عدّة، تطرح فكرة وجود علاقات تطبيع مع البلدَين مستقبلاً، ونفي أيّ وجود لجماعات تهاجم إسرائيل.
ويحاصر نزع السلاح أيضاً فكرة المقاومة حقّاً مشروعاً، ويجعلها شرطاً قابلاً للمراجعة. وتشنّ تلّ أبيب هجمات عسكرية بدعوى حماية أمن الحدود، كما في حالة لبنان، في إعادة لتبنّي مفهوم الجدار الحديدي (زائيف جابوتنسكي)، الذي يستعاد نقطةَ انطلاق لعمليات عسكرية هدفها إثبات أن المقاومة ليست حلّاً، والبديل تسليم الأطراف كلّها بإرادة إسرائيل وقدرتها على الهجوم والردع قبل التفاوض، ويتضّح ذلك من هجمات تُشنّ على الدول المحيطة، وأخرى لا يربطها مع دولة الاحتلال تماس جغرافي، كما هو الحال مع التصعيد ضدّ اليمن.
وضمن قضايا ذات صلة بحصار إسرائيل لقوى الشرق الأوسط، يأتي التحريض على توجيه ضربات لإيران لإعاقة حصولها على سلاح نووي، سواء عبر ضربات منسّقة مع الولايات المتحدة بديلاً من التفاوض، أو الهجوم عليها بشكل منفرد، ويتصّل ذلك بمحاصرة أيّ جهة إقليمية تحاول حيازة قوّة عسكرية بوصفها تهديداً، وضُخِّمت دعاوى تهريب السلاح، حسب ما يشرح وزير الأمن المقال يوآف غالانت في مقابلة تليفزيونية، تناول فيها تسويق مزاعم وجود أنفاق ضخمة في محور فيلادلفي (صلاح الدين) وخلق انطباع زائف بوجود تهديد استراتيجي، وهو ما يستخدمه نتنياهو بشكل مستمرّ لشن الضربات الاستباقية في جبهات عدة، لتحقيق النصر الكامل، معلناً أن التوقّف يعنى خسارة المكاسب التي تحقّقت. وهذا يعكس استراتيجيةً ترتكز على الهيمنة عبر العدوان والحرب. وحتى استعادة الأسرى لم تعد شاغل قيادة الاحتلال، وإلى جانب أنها تريد نزع هذه الورقة من التفاوض وتقليل وزنها النسبي، فإن هذه الورقة لم تعد هدفاً أساسياً، ولم يكن مفاجئاً أن يقول وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في مقابلة معه (21 إبريل/ نيسان) إن استعادة الأسرى هدف ثانوي، وهو يدعو إلى احتلال القطاع ويتبنّى استمرار الحرب.
وفي هذا السياق، يبرز الأمن أولوية قصوى، يتحقّق عبر نفي الجماعات المناوئة ونزع سلاحها، وسيطرة على الأراضي، ويسهم في استمرار هذا التوجّه التوسّعي هشاشة الوضع الإقليمي وعجز عن وقف تمدّد العدوان. كما يتزامن مطلب نزع السلاح مع استنزاف الحرب أهدافها عملياً، بإعلان "حماس" تخلّيها عن السلطة لمصلحة لجنة الإعمار، وتآكل إمكاناتها التنظيمية والسياسية، وبعرضها تسليم الرهائن في مقابل وقف إطلاق النار وانسحاب الاحتلال من القطاع. ويدفع بالطلب عربياً، تحت عنوان "وضع السلاح جانباً"، ما يخفف من وقعه باعتباره أحد متطلّبات الهدنة، غير أنه مطروح إسرائيلياً لتأهيل القطاع، ولتجسيد مطلب أمني "لا يمكن إعادة التأهيل من دونه، لأنه يضمن بيئة مستقرة وآمنة تفكّك الجناحَين السياسي والعسكري لحركة حماس بالكامل"، حسب ما جاء في تقييم استراتيجي لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، نشر في فبراير/ شباط الماضي، إلى جانب أوراق لمراكز أبحاث عبرية وأميركية منذ أشهر الحرب الأولى، تتعلّق بمسألة التسليح ومواجهة القوى المناوئة لإسرائيل، والقضاء على المقاومة وجوداً، وتالياً النيل من فكرة وخطاب المقاومة (خطاب "التطرّف"). وحالياً، وعلى أرضية نتائج العدوان، تشترط دولة الاحتلال إعلان التخلّي عن السلاح، وبذات الصيغة تفرض شروطها في لبنان وتهدّد بالبقاء في الجنوب، مع توسيع المناطق المحتلّة في سورية.
ويرتبط نزع السلاح بتدمير المقاومة، وأيضاً تعطيل أيّ قوة من البروز والحدّ من فاعلية القوى الحالية، في مقابل تعزيز قوة الاحتلال العسكرية، ويظهر هذا النهج بتحريض الاحتلال ضدّ إيران، ومحاولات توجيه ضربة منسّقة مع الولايات المتحدة ضدّ المشروع النووي الإيراني وصواريخ طهران الباليستية، بل والحديث عن ضربة منفردة، ما تمسّكت واشنطن بالتفاوض، وكذلك الدفع لتصعيد الهجمات على جماعة الحوثيين في اليمن للقضاء على قدراتها وشلّها اقتصادياً. ويتكامل هذا التوجّه مع خطاب يتكرّر، وتعليقات قلقة من تسلّح الجيش المصري، وتعزيزاته في سيناء، وشراكاته العسكرية (منها المناورات الجوية الأخيرة مع الصين). وإن كان ما سبق يخصّ دولاً تحيط بإسرائيل، وخاضت معها مواجهات سابقة، فإن توجهات الاحتلال حيال قبول تسلّح دول خليجية ما زال يلقى تحفّظات، يظهر في نقاشات حول سعي السعودية إلى تنفيذ مشروع برنامج نووي، وتعاونها مع باكستان والصين، والتلويح بإمكانية تقديم مساعدة أميركية مقابل التطبيع، وحتى مع الإمارات التي تعتبرها ركناً أساسياً في بناء تحالف إقليمي مستند إلى اتفاقات إبراهام، فإنها لم تبد تعاوناً مع مشروعات بناء محطّات نووية سلمية، وتعاونت الإمارات مع كوريا الجنوبية وفرنسا.
وإجمالاً، لم تعد قضية نزع السلاح تقتصر على إضعاف المقاومة وصولاً إلى نفيها، وأداةً للضغط في التفاوض لإنهاء الحرب في غزّة، وحسب، لكنّها أداة لتحقيق الردع الإقليمي عبر إضعاف الأطراف المناوئة كلّها، وكلّ ما أمكن ذلك، بعد أن فشلت فكرة تأمين حدود غزّة بجدار أمني، ولم تحقّق سلسلة هجمات على القطاع كانت توصف بجزّ العشب هدفها من حماية الأمن. ومن جانب آخر نزع السلاح أداة لتثبيت صورة النصر الكامل لدى نتنياهو (الحاسم بتعبير ديفيد بن غورين)، وتحقيق أهداف الاحتلال استراتيجياً بمحاصرة أيّ قوى (دول أو جماعات) لمنعها من امتلاك القدرة والقوة أو التلويح بهما، حتى ولو كانتا محدودتي الأثر، خفيفتين ومصنّعتين محلّياً كما في حالة المقاومة، وهي قوة لا تقارن بما تمتلكه إسرائيل من واردات أسلحة شديدة التدمير، أو ما تصنعه وتستخدمه من أسلحة محرّمة، وأخرى توصف بأسلحة دمار شامل.