عمر ومحمد وفاتن .. "أكفان العيد" حضرت مبكرًا

mainThumb
عمر ومحمد وفاتن.. "أكفان العيد" حضرت مبكرًا

02-06-2025 10:11 AM

printIcon

أخبار اليوم - "كانوا ينتظرون قدوم العيد"، تمايلوا بملابس جديدة زاهية كأنها حيكت لأجلهم، اطمأنوا إلى مناسبتها لمقاساتهم المطلوبة، وعلقوها سريعًا أمام ناظرهم لئلا يغيب عنهم الفرح، في حين يشتعل فيهم الشوق لأبيهم ويعذبهم النزوح القسري والجوع. لكن القصف الإسرائيلي لم يمهلهم طويلًا، وخطفهم من الحياة إلى الموت.

خلف كاميرا الهاتف النقال، نثر عمر (9 أعوام) ومحمد (3 أعوام) ابتساماتهما الخجولة لأبيهما في صورة تحمل سيلا من أمنيات الطفولة السليبة، ووزعت فاتن (5 أعوام) أيضا شيئا من السعادة، وهم يرتدون جميعا ملابس جديدة في "بروفة عيد الأضحى" الذي يحل يوم الجمعة.

كان يفصل بين أبيهم جهاد الشريف وبينهم معبر رفح الذي سيطرت عليه قوات الاحتلال الإسرائيلي من الجانب الفلسطيني في مايو/أيار 2024، لتتقطع بهم السبل دون أن يجدوا وسيلة للقاء، أو حتى الوداع الاخير.

"تفرقنا بلا ذنب"، هذه الكلمات الساخنة نطقها "الشريف" المثقل بمصيبة من العيار الثقيل، في حديثه مع "فلسطين أون لاين"، لتكشف عن تصدعات صوته، وانهيارات نبرته الدامعة.

أمل هزيل

في بداية حرب الإبادة الجماعية قبل 19 شهرا، أجبره الاحتلال على النزوح مع أسرته من شمال قطاع غزة حيث يقطن. حملهم الخوف إلى مدينة دير البلح، واحتموا في بيت أهل زوجته، بحثا عن بقعة أكثر أمانا في جغرافيا الموت.

وخلال العدوان، سافر الشريف إلى مصر، قبل أن يتسبب احتلال المعبر بحرمانه وأسرته من حرية التنقل.


"كانوا يبكون كل يوم.. وأنا لا أنام"، يقول الشريف، وفي كل لحظة كان يلاحق أملا هزيلا باللقاء. زوجته شيماء كانت تردد: "بتمنى لو لقاء ليوم واحد بس". ويرد عليها مطمئنا: "رح نلتقي ونكون مبسوطين إن شاء الله".

حتى ابنه محمد، حين سأله والده: "شو أجيب لك؟"، لم يطلب لعبة أو حلوى، بل أجاب ببراءة موجعة: "بدي جاجة". لم تكن دجاجة واحدة متاحة في كل غزة التي تأكلها المجاعة.

أما عمر، فحين سأله والده ممازحا: "لو بقدر أطلع لك شي من الجوال، شو أجيب؟"، أجابه الطفل: "اطلع أنت من الجوال وتعال.. بديش إشي غيرك".

كان الأب يتواصل معهم كل ساعة تقريبا. يسمع بكاءهم، فيزداد وجعه. "كانوا في حالة ذهول، كل يوم كانوا يعيطوا"، يقول الشريف بصوت متهدج. ثم يصمت للحظة قبل أن يضيف لـ "فلسطين أون لاين": "وأنا نفسيا كنت منهار.. مكناش نقدر ننام.. كيف كنا مع بعض وتفرقنا".

وفي المقابل، كانت فاتن، تحاول أن تخفف عن أبيها، وتطمئنه ببراءتها المعهودة: "يا بابا، إحنا حنشوف بعض.. صح؟" فيرد عليها: "طبعا، إن شاء الله يا بابا".



لكن الطفلة الصغيرة، وكأنها تستشعر الزمن، قالت له: "اوعدني إن إحنا نشوف بعض"، فأجابها وهو يكتم رجفة قلبه: "بوعدك.. وقريبًا إن شاء الله، ما تقلقي".

استعادة طقوس العيد

قبل الحرب، كانت الأسرة تخرج معا لشراء ملابس العيد. الشريف وزوجته شيماء وأطفالهما الثلاثة كانوا يحرصون على أن يختار كل منهم ما يحب، ثم يكملون الطقس الجميل بشراء الشوكولاتة والمكسرات وحلويات الضيافة، ويملؤون البيت بضحكاتهم وتحضيراتهم الصغيرة. يقول الشريف: "كنا من أجمل العائلات… كنا نعيش لحظات سعادة غامرة".

حتى خلال الحرب الجارية، لم يسمح الشريف للواقع أن يسلب الأطفال فرحتهم. "ما إلهم ذنب"، كان يردد، ويصر في كل عيد على أن يصنع لهم طقسا يشبه الحياة، حتى لو كانت الملابس بأي ثمن، وحتى لو كان العثور عليها معجزة.

قبيل عيد الأضحى المرتقب، أرسل الشريف صورا لواجهات المحال القليلة التي ما تزال تعمل في غزة، وطلب من كل واحد من أطفاله أن يختار اللباس الذي يعجبه. اختاروا، وبفرح غامر أخبروه بقراراتهم. لكنه واجه معاناة أخرى: إيصال الملابس إليهم، إذ كانوا في دير البلح والمحال في شمال القطاع. استغرق الأمر يومين كاملين، وكانوا بانتظارها على أحر من الجمر.

عندما وصلت الملابس، قاسوها سريعا، وتأكدوا من المقاسات بحذر وفرح طفولي بريء. لم يكن هناك مجال لخطأ؛ فالوقت لا يسمح بالتبديل. علق كل منهم ملابسه. وبدأ العد التنازلي لتكبيرات العيد.

"يا بابا جبنا الأواعي، بس كيف بدنا نجيب ألعاب؟ مفيش ألعاب في غزة"، قالوا له. وانكسر قلبه، لأن هذا الطلب البسيط مستحيل التحقق في غزة المحاصرة والمدمرة.

لكن قدر الله سبق، والملابس التي انتظروها لم يرتدوها.

في 17 مايو/أيار الماضي، وصلت النيران الإسرائيلية إليهم. قصف صاروخي دمر البيت على من فيه، فاستشهدت شيماء، وطفلاها فاتن، ومحمد، بينما أصيب عمر، الابن الأكبر، بحروق طالت 80% من جسده الصغير. صُنّفت إصابته على أنها من الدرجة الثانية، وكان يحتاج علاجا عاجلا في الخارج.

ناشد الشريف، وناشدت العائلة، طرقوا أبواب العالم والإنسانية، لكن المعبر ظل مغلقا، والمستشفيات المنهكة في غزة لم تكن تملك أكثر من الأسى. لم تمض أيام حتى فاضت روح عمر، ولحق بأمه وأخويه، "الحمد لله رب العالمين"، يقول الشريف رغم النزيف الذي لا يُرى.

في القصف ذاته، استشهد أيضا شقيق زوجته وعائلته، وأصيب آخرون.

لكنها لم تكن الفاجعة الأولى. في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2024، قصف الاحتلال منزل عائلته في شمال القطاع، فاستشهد والده وإخوته: إحسان، ومجد، وجيهان، وزوجة أبيه، وعمته وابنها وعائلته بالكامل.

وفي الفاجعة الثانية، البيت تهدم أيضا، والفرح اندثر، والعيد الذي انتظروه لم يأت أبدا.

 فلسطين أون لاين