الدكتور فؤاد اياد خصاونة
في ظل التحولات العالمية المتسارعة في مجالات التكنولوجيا والرقمنة، يبرز التعاون الثقافي بين الدول كضرورة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز التفاهم المتبادل بين الشعوب، وتأتي الشراكة الثقافية بين الأردن والصين كنموذج بارز في هذا المجال، خصوصًا في ميادين الصناعات الإبداعية والثقافية والفنية والثقافة الرقمية، عبر تبادل الخبرات وتطوير القدرات والابتكارات التكنولوجية.
فقد حظيت مؤخرا في المشاركة في ندوة حول التنمية الثقافية الرقمية لدول الحزام والطريق، في بكين. حيث استعرض السيد "ما فونغ" مدير الاكاديمية المركزية لإدارة الثقافية والسياحية في بكين التجربة الصينية المميزة في دمج التكنولوجيا مع الثقافة، مؤكدًا أهمية الابتكار في النهوض بالصناعات الثقافية وتعزيز الأثر الاقتصادي والاجتماعي لها، وتأتي هذه الندوة ضمن جهود تعزيز التعاون الثقافي بين الصين والدول المشاركة، ومنها الأردن، من خلال تبادل المعارف والتجارب الناجحة.
حيث أشار السيد "ما فونغ" ايضا إلى أن الصين اعتمدت مرحلتين أساسيتين في نهجها الثقافي الرقمي، تتمثل الأولى في الابتكار التكنولوجي الثقافي من خلال استخدام التكنولوجيا لتعزيز الصناعات الثقافية وتحسين كفاءتها الإنتاجية، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التكامل العميق بين الثقافة والتكنولوجيا، والتي بدأت منذ عام 2019 عبر حزمة من السياسات الوطنية التي تهدف إلى تطوير منظومة متكاملة للبحث والتطوير والتطبيق، وتحقيق التحول الرقمي الكامل للقطاعات الثقافية.
ولفت السيد "ما فونغ" إلى أهمية الدورات التدريبية التي تقدمها الصين في مجال الثقافة والثقافة الرقمية، ودورها الكبير في تطوير مهارات المشاركين من مختلف الدول، ومنهم الأردنيون الذين استفادوا بشكل ملحوظ من هذه البرامج، حيث تمكنوا من اكتساب مهارات تقنية وثقافية متقدمة، ما يؤهلهم لتعزيز الصناعات الإبداعية المحلية وتطوير محتوى ثقافي مبتكر يعكس الهوية الوطنية الأردنية بأساليب عصرية.
ان القيمة الكبيرة لهذه الدورات تكمن في بناء جسور التعاون الثقافي والتكنولوجي، حيث أن الثقافة تُشكل قوة محورية لتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما أنها تلعب دورًا جوهريًا في الحد من التطرف والنزاعات من خلال تعزيز الحوار والتفاهم بين الشعوب.
وفي ضوء هذه التجارب الملهمة، تبرز الحاجة الملحة إلى أن تتبنى الحكومة سياسات وطنية شاملة لتعزيز الثقافة الرقمية، تنطلق من رؤية استراتيجية واضحة تُراعي خصوصية الهوية الثقافية الأردنية، وتستثمر في الموارد البشرية والتقنية، فتبني سياسات داعمة للابتكار في الصناعات الثقافية، وإنشاء حاضنات رقمية للمبدعين، وتطوير البنية التحتية الرقمية للقطاع الثقافي، كلها خطوات ضرورية تُمكّن الأردن من مواكبة التحولات العالمية والمنافسة في فضاء الثقافة الرقمية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال التشاركية بين الوزرات المختصة، كما أن دمج الثقافة في السياسات التعليمية، وتعزيز الشراكات مع المؤسسات الأكاديمية والفنية، سيسهم في بناء جيل قادر على إنتاج محتوى ثقافي معاصر، يعكس القيم الوطنية ويفتح آفاقًا للتواصل الإبداعي مع العالم.
لقد شكّل التعاون الثقافي بين البلدين ركيزة استراتيجية في دعم التفاهم السياسي والاقتصادي والتنموي، من خلال تبادل الوفود الفنية، وتنظيم الندوات الثقافية، وفتح أبواب الأكاديميات الثقافية أمام المثقف الأردني للتعرف على تجارب الصين في شتى المجالات الثقافية والفنية، هذا التفاعل لا يساهم فقط في إثراء التجربة الفردية، بل يعكس على تعزيز قدرة المجتمعات على تطوير فهم أعمق للتعددية، بعيدًا عن الصور النمطية والانغلاق الثقافي.
تكتسب هذه العلاقة بعدًا إضافيًا في ظل مبادرة "الحزام والطريق"، التي تضع الثقافة في صميم التنمية المشتركة، فالصين، من خلال الأكاديمية المركزية للإدارة الثقافية والسياحية، تعمل على ربط الثقافة بالسياحة والتنمية البشرية، وتوفر للأردنيين منصات تدريبية ومهنية تُسهم في صقل مهاراتهم وتوسيع آفاقهم المعرفية، بما يعزز من مساهمتهم في بناء اقتصاد ثقافي مستدام.
وهذا الاقتصاد الثقافي لا بد ان يعتمد بشكل أساسي على الصناعات الثقافية الرقمية التي تعد من أبرز محركات الاقتصاد الإبداعي في العصر الحديث، حيث تفتح آفاقًا واسعة أمام المجتمعات للاستثمار في الإبداع والابتكار بوصفهما مصادر مستدامة للنمو الاقتصادي، وفي السياق المحلي، تبرز هذه الصناعات كفرصة استراتيجية لدعم الاقتصاد الوطني، من خلال تمكين الشباب والمبدعين من إنتاج محتوى رقمي ثقافي يعكس التراث المحلي بأساليب تفاعلية ومعاصرة، ويشمل ذلك مجالات متعددة مثل الموسيقى الرقمية، والتصميم، الرسوم المتحركة، الألعاب الرقمية، الإنتاج المرئي والمسموع، والمنصات التعليمية الثقافية، إن تطوير بيئة حاضنة للصناعات الثقافية الرقمية يسهم في خلق فرص عمل جديدة، وتعزيز ريادة الأعمال، وجذب الاستثمارات، فضلًا عن تعزيز الصادرات الثقافية الرقمية، ومع وجود الكفاءات الأردنية الشابة وازدياد انتشار التكنولوجيا، بات من الضروري الاستثمار في البنية التحتية الرقمية ووضع أطر تشريعية مرنة تدعم نمو هذا القطاع الحيوي، بما يعزز مكانة الأردن كمركز إقليمي واعد في الاقتصاد الإبداعي.
إن ما يجمع الأردن والصين ليس فقط اتفاقيات رسمية أو مشاريع تنموية، بل رؤية مشتركة ترى في الثقافة محركًا للتنمية، وأداة لبناء السلام، ومساحة لصياغة هوية إنسانية جامعة مما جعل الثقافة قوة ناعمة تتجاوز الحدود، وتتعمق بقدر ما تتلاقى وتتمازج، وترتقي بقدر ما يُفتح لها المجال للتفاعل والانفتاح.
ومن هنا، فإن المضي قدمًا في تعزيز هذا التعاون الثقافي ليس مجرد خيار، بل ضرورة لبناء مستقبل يرتكز على الاحترام المتبادل، والتنوع، والحوار، وهي القيم التي يحتاجها عالم اليوم أكثر من أي وقت مضى، بالإضافة الى الاتاحة للمثقفين محليا الاستفادة من النموذج الصيني في خلق توازن ديناميكي بين العرض والطلب على المحتوى الثقافي الرقمي، فمن خلال تبني سياسات وطنية داعمة للابتكار والإنتاج الثقافي، يمكن للأردن تعزيز مكانته كمركز ثقافي إقليمي متقدم، يوفر منصات رقمية حديثة ويطور صناعات إبداعية متنوعة.
ختامًا، فإن التعاون الثقافي الأردني الصيني لا يقتصر على الجانب الثقافي فقط، بل يتسع ليشمل رؤية مستقبلية مشتركة تدمج الثقافة بالعلوم والتكنولوجيا، وتُسهم في محاربة التطرف وتعزيز السلام الاجتماعي، بما يعكس شراكة حقيقية مبنية على الاحترام المتبادل والتطلع نحو مستقبل ثقافي رقمي شامل ومستدام.