حين تُستأجر الدموع .. ويُدفع أجر الفرح!

mainThumb
حين تُستأجر الدموع... ويُدفع أجر الفرح!

26-10-2025 10:17 AM

printIcon

الكاتب أجمل الطويقات


في ذاكرة المجتمع المصري، كما في ذاكرة كثير من الشعوب، تظهر عادات تبدو غريبة، هي انعكاس لمشاعر تجمع بين الحزن والفرح على خشبة مسرح الحياة.
فقد كان المصري لا يكتفي بحزنه الطبيعي على الميت، بل كان يرى في النياحة طقسًا واجبًا يُعلن للناس مقدار الفقد وعمق المصيبة، حتى وإن لم يكن في القلب من الحزن ما يستحقّ الصراخ.


النياحة... حين تبكي من لا تبكيه
كان يُستأجر للميت نساء يُدعين "النيّاحات"، يجبن البيوت بثياب سوداء وصوت مبحوح، يندبن الميّت بعبارات محفوظة تقال لكل راحل، كأنّ الحزن صناعة تباع بالقطعة.
يقال إن الواحدة منهن كانت تحفظ عشرات المراثي، وتجيد فنّ البكاء المصحوب بالعويل والتمايل على إيقاع يشبه الغناء الجنائزيّ، كأن المأتم مسرح صغير له جمهور ونجمات.

 

ولم يكن أهل الميّت يرون في ذلك عيبًا، بل كانوا يتباهون بعدد النيّاحات، تمامًا كما يتباهى الأغنياء بعدد المدعوّين إلى حفلاتهم.
وفي المقابل... الغواني يرقصن للفرح، وفي الجهة الأخرى من المشهد الاجتماعي، كان الفرح لا يكتمل إلا بوجود الغواني والمطربات الشعبيّات اللواتي يُستأجرن للغناء والرقص، لا حبًّا في العروسين، بل حبًا في الرزق واللقمة الحارّة.
كانت الراقصة تُدعى "العالمة"، أي "العالمة بفنون الطرب"، ويُعدّ حضورها من علامات الوجاهة الاجتماعية، خصوصًا في الريف والحواري القديمة.
إنها المفارقة التي تلخّص فلسفة الحياة عند المصري: كل شيء له ثمن، حتى البكاء والضحك.

ما بين النياحة والرقص... وجه واحد للمجتمع
وربما كان في هذا التناقض مرآة تعكس بساطة الإنسان المصري وعمق فلسفته في التعامل مع الحياة والموت؛ إذ لم يكن يرى في الحزن أو الفرح إلا طقسًا اجتماعيًّا يجب أن يُؤدّى كما جرت العادة، ولو بدموع مستعارة أو ضحكات مدفوعة الثمن.

جملة تختصر كل شيء: تبدّل المشاعر، وازدواج الأحوال، وصدق الفطرة التي لا تخفى على العين مهما حاول الناس تزيينها بالطقوس.
ولعلّ المضحك المبكي في زمننا هذا، أن تلك العادات القديمة لم تمت تمامًا؛ لقد خلعت عنها الجلابيب السوداء، وارتدت بدلًا منها ملابس حديثة.


ثلّة من "النيّاحيين الجدد" في مؤسساتنا، ورجالات كـ"العالمات الرسميّات" اللواتي يُستأجرن لتجميل الصورة وتزييف الوعي!
لقد تبدّل المشهد، لكنّ الفكرة هي ذاتها: النيّة واحدة، والوسيلة واحدة، والمستفيد واحد — أولئك الذين تسلّقوا المناصب على سلالم الواسطة والمحسوبية، وتوّجهم الانتهازيّون بتصفيق مزيّف وصور مصقولة لا تُعبّر عن شيء سوى خواء الحقيقة.