أخبار اليوم - سهم محمد العبادي
في ظل تصاعد التوترات الإقليمية واندلاع مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل، تحوّل المجال الجوي الأردني، إلى معبر لعبور الصواريخ، ومسار للمسيّرات التي كانت تتبادلها الأطراف المتنازعة في واحدة من أكثر اللحظات حساسية أمنية في المنطقة.
الغارات الإسرائيلية انطلقت من خارج الحدود الأردنية، عبر اتجاهات متعددة شملت لبنان وسوريا والعراق، فيما حلّقت الصواريخ الإيرانية فوق الأجواء الأردنية باتجاه العمق الإسرائيلي، في مشهد يضع الأردن في موقع المتأثر بشكل غير مباشر من حرب تشتعل حوله.
لكن الحدث لم يبقَ في السماء، إذ سقطت شظايا وأجسام طائرة غير معرّفة في مناطق مختلفة من المملكة، محدثة أضرارًا مادية في بعض الممتلكات الخاصة، وسُجّلت إصابات بشرية محدودة نتيجة تطاير الشظايا أو الارتطام المفاجئ لبعض الأجسام بالأرض، ما استدعى استنفارًا فوريًا من الأجهزة الأمنية والدفاع المدني.
مديرية الأمن العام، وبالشراكة مع الجهات المختصة، فعّلت خطة طوارئ ميدانية للتعامل مع هذه الحالات، تضمنت تطويق مواقع السقوط، وتحذير المواطنين من الاقتراب، وإطلاق صافرات الإنذار في عدد من المواقع كإجراء وقائي لحماية المدنيين، ودعوتهم للابتعاد عن النوافذ والتزام منازلهم لحين انتهاء الخطر.
غير أن الواقع على الأرض أظهر مفارقة صادمة: في الوقت الذي كانت فيه الأجهزة المعنية تُطلق التحذيرات، كان عدد كبير من المواطنين يهرع إلى مواقع السقوط، لا لتقديم المساعدة أو التحقق، بل لتصوير المشهد، وبثه عبر منصات التواصل الاجتماعي.
بعضهم خرج من منزله فور انطلاق صافرات الإنذار، مدفوعًا بالفضول أو الرغبة في التوثيق، حاملًا هاتفه المحمول نحو السماء، في محاولة لرصد مسار الصاروخ أو التقاط لحظة الانفجار، دون أن يدرك أن لحظة كهذه قد تكون هي ذاتها لحظة الخطر الأكبر.
آخرون وجدوا في هذا المشهد فرصة للظهور، فقاموا بتسجيل مقاطع مصورة تُبث مباشرة عبر حساباتهم، ترافقها أغانٍ وطنية أو تعليقات فكاهية، وكأنهم في احتفال جماهيري لا في موقف طارئ يستوجب الحذر والجدية والانضباط.
وفي أكثر من حالة، ومع سقوط شظايا معدنية في مناطق مأهولة، تدافع المواطنون نحو الموقع، وقام بعضهم بالتقاط صور "سيلفي" بجانب الشظايا، بل إن البعض حملها بيده، دون أدنى معرفة بما تحمله من مخاطر محتملة، سواء من بقايا متفجرة أو إشعاعات أو تلوث مجهول المصدر.
وتحول الحدث إلى مادة للتهكم الشعبي، إذ نشطت صفحات التواصل الاجتماعي في تداول مقاطع ساخرة، وتعليقات تستخف بالتحذيرات، وتنشر معلومات غير دقيقة، ما زاد من حالة الإرباك المعلوماتي لدى المواطنين، رغم المحاولات الرسمية لضبط الخطاب الإعلامي والتأكيد على المعلومة الدقيقة.
وفي غياب الضبط الذاتي، تحوّل بعض المواطنين إلى ما يشبه "المراسل الميداني"، يبث من موقع الحدث دون علم أو مسؤولية، ينقل أرقامًا أو سيناريوهات غير مؤكدة، ويُساهم دون قصد في تشويش المشهد العام، ويضع المؤسسات في موقع رد الفعل بدل القيادة.
هذا السلوك الشعبي – غير المنضبط – يفتح الباب على مصراعيه لطرح أسئلة جوهرية عن ثقافة الطوارئ في المجتمع الأردني، ومدى استعداد الأفراد للتعامل مع الأحداث الطارئة بوعي ومسؤولية.
كيف يمكن أن يُطلق التحذير، ولا يُؤخذ على محمل الجد؟
كيف يمكن أن تتحول إجراءات الحماية إلى لحظة استعراض؟
وأين يكمن الخلل الحقيقي؟ هل في غياب التوعية؟ أم في غياب ثقافة الانضباط العام؟
إن ما جرى، وإن لم يُخلّف خسائر واسعة، إلا أنه يجب أن يُقرَأ كمؤشر على هشاشة في التعاطي المجتمعي مع المخاطر الحقيقية، خصوصًا تلك التي تقع ضمن المجال الأمني أو العسكري. فالصاروخ لا يُفرق بين مستعرض وحذر، والشظايا لا تنتقي ضحاياها بناءً على درجة الجدية.
ولا يُمكن هنا تحميل المواطن وحده كامل المسؤولية، فغياب برامج التثقيف الوطني في المدارس والجامعات والمجتمع المحلي حول إجراءات الطوارئ، وضعف منظومات التوعية عبر الإعلام التقليدي والجديد، وغياب النماذج التوعوية المنتظمة، كلها عوامل أسهمت في غياب الفهم الحقيقي لمعنى التحذير، ومعنى المسؤولية.
الحدث أثبت أن الأردن بحاجة إلى بناء وطني جديد لمفهوم الاستجابة المجتمعية، وأن الأجهزة الأمنية وحدها لا تكفي، مهما بلغت كفاءتها. فثقافة السلامة يجب أن تكون سلوكًا جماعيًا مؤسسيًا، يُبنى على الوعي والمعرفة والتدريب، لا على الارتجال أو الفوضى أو البحث عن لقطات رقمية.
التحذير يجب أن يُسمع، لكن الأهم أن يُفهم.
والمواطنة ليست في تصوير الخطر، بل في احترام حدوده.
وإذا كانت هذه الحرب قصيرة ونتائجها محدودة، فإن القادم – في حال تكررت الأزمات – قد لا يكون كذلك. والاستعداد لا يبدأ من الدولة فقط، بل من وعي المواطن وإدراكه أن الوطن ليس مجرد جغرافيا تُصوّر، بل مسؤولية تُحمَل.