أيهم أبو ناصر .. إعاقة مضاعفة بين قسوة الحرب وجحيم النزوح

mainThumb
أيهم أبو ناصر.. إعاقة مضاعفة بين قسوة الحرب وجحيم النزوح

30-06-2025 11:33 AM

printIcon

أخبار اليوم - في أحد أزقة مخيم النازحين جنوب قطاع غزة، وتحديدًا في دير البلح، يجلس أيهم أبو ناصر، طفل في الرابعة عشرة من عمره، على قطعة إسفنج بالية أمام خيمته. لا يتحدث، لا يفهم ما يدور حوله، ولا يستطيع التعبير عمّا يشعر به. عيناه تائهتان، وأصابعه تعبث بالتراب بصمت، كأنه يحفر خندقًا للهروب من هذا الواقع القاسي.

أيهم، الذي يعاني من إعاقة ذهنية منذ ولادته، كان يعيش قبل الحرب حياة بسيطة لكنها مستقرة في منزله بمخيم جباليا شمال قطاع غزة. هناك، كانت أسرته قادرة على توفير احتياجاته، وكان يرتاد مركزًا متخصصًا بحالته، يحظى فيه بالرعاية والاهتمام.

حفاضات توفرها المؤسسة، غذاء خاص يناسب حالته، روتين يومي يمنحه شعورًا بالأمان، وأشخاص يفهمونه بطريقته الخاصة.

تقول والدته انتصار أبو ناصر لـ "فلسطين أون لاين": "كان أيهم مرتاح.. صحيح ما بيحكي، بس كان مبسوط، في ناس تهتم فيه، والمركز ساعدنا كثير. كانت الحفاضات متوفرة، وحتى طعامه كنا نقدر نوفره بمساعدتهم."

من بيت إلى العدم

لكن كل شيء انهار مع بدء الحرب الإسرائيلية على غزة منذ السابع من أكتوبر. دُمر المنزل، وتشتت العائلة، واضطرت للنزوح جنوبًا إلى دير البلح.

أيهم، الذي لا يدرك معنى الحرب أو النزوح، كان يسير بجسد منهك وقلب خائف، لا يفهم لماذا تركوا سريره، أو أين اختفى أصدقاؤه في المركز، أو لماذا لا يعودون.

تقول والدته: "مشينا من جباليا لدير البلح مشي. أيهم ما كان يستوعب، بيبكي ويصرخ فجأة، بيتعثر، وكل شوي لازم أوقف أحمله أو أهدّيه. ما كان في سيارة ولا عربة، وعندي أطفال تانين، وزوجي أصم وما بيقدر يساعد."

في دير البلح، لا مركز يستقبله، ولا مؤسسة ترعاه. داخل المخيم، يتساوى الجميع في الألم، لكن الأطفال مثل أيهم يعيشون معاناة مضاعفة؛ لا رعاية، لا دعم، ولا من يفهم لغتهم الخاصة.

"ما في مركز يهتم فيه، ولا حد حتى يطّمن عليه.. ضاع أيهم، كأنه انمسح من الوجود."

حفاضات مفقودة وغذاء معدوم

أكثر ما يؤلم الأم اليوم هو العجز. فرغم كبر سنه، لم تتمكن من تدريبه على استخدام الحمام، وكانت تعتمد على الحفاضات التي وفرتها المؤسسة سابقًا. الآن، لا حفاضات، أو بأسعار خيالية، فتغسل ما بقي لديها وتعيد استخدامه مرارًا.

أيهم يعاني أيضًا من سوء تغذية حاد؛ فالعائلة تعيش على وجبة واحدة بالكاد تكفي. لكنه لا يفهم معنى "ما عنا أكل"، يطلب الطعام باستمرار، يبكي عندما لا يجده، ويدخل في نوبات من الغضب تجعله يضرب نفسه أو إخوته.

تقول والدته: "هو ما بيوعى على الجوع مثلنا.. بس بيحس إنه جعان وبدّه ياكل بأي وقت. بيضل يطلب أكل، وأنا قلبي بينكسر لما ما ألاقي له شي."

قصف يزيد الرعب

رغم أنه لا يسمع، إلا أن جسد أيهم يرتجف مع كل اهتزاز في الأرض. القصف اليومي يرعبه، يجعله يركض مذعورًا، يختبئ في حضن والدته أو تحت الغطاء، وكأن صمته لا يحميه من الرعب.

تقول: "كل ما يصير قصف، بيصرخ فجأة، وبركض، ويمكن يقع ويتأذى. حتى بالليل ما بنام، بخاف، وأنا ما عندي وسيلة أطمّنه."

منذ بداية الحرب، لم تزُر أي مؤسسة العائلة، ولم يصلهم أي دعم مخصص لذوي الإعاقة. المركز الذي كان يرعاه في جباليا أغلق أبوابه بفعل الحرب، ولا يوجد بديل في دير البلح.

توضح والدته: "تواصلت مع مؤسسات قبل النزوح، بس قالوا الوضع صعب وما في إمكانيات. كل يوم بيمر على أيهم بينحرم من شيء جديد، حتى أبسط حقوقه."

أيهم.. وجه من وجوه غزة المنسية

أيهم ليس سوى وجه واحد من آلاف الوجوه المنسية في غزة. أطفال ذوو إعاقات ذهنية دفعوا ثمن الحرب مضاعفًا؛ لا صوت لهم، ولا من ينقل صراخهم الداخلي. أجسادهم هشة، واحتياجاتهم خاصة، لكن لا أحد يلتفت إليهم.

تختم والدته والدموع تخنق صوتها: "نفسي حد يهتم فيه.. يجيب له حفاضات، أكله، حتى لعبة تفرّحه.. هو ما بيعرف يحكي، بس والله قلبه بيوجع أكتر من ألف حكي."

بحسب إحصائيات سابقة لـجمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية، يُقدَّر عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في قطاع غزة بين 160 إلى 170 ألف حالة، ومع الحرب ارتفع العدد بما يزيد عن 30 ألف حالة جديدة، لتصبح نسبة الإعاقة نحو 9% من إجمالي السكان البالغ أكثر من 2 مليون نسمة.

ومع اتساع رقعة الحرب والنزوح، توقفت غالبية المؤسسات والمراكز التأهيلية عن العمل، بما في ذلك مراكز الرعاية النهارية والمدارس المتخصصة. حُرم الأطفال من ذوي الإعاقة من أبسط حقوقهم في الغذاء، والنظافة، والعلاج، والرعاية النفسية، خاصة مع فقدان نحو 80% من هذه الخدمات بفعل الدمار أو النزوح.

حتى الآن، لا توجد أي خطة استجابة طارئة مخصصة لهذه الفئة، ما يجعل آلاف الأطفال مثل أيهم يواجهون مصيرًا مظلمًا ومضاعفًا من الإهمال والتهميش، في حرب لا تفرّق بين سليم وعاجز، بين من يصرخ، ومن لا يستطيع حتى التعبير عن ألمه.

المصدر / فلسطين أون لاين