محمد شاهين.. المعنى الذي لا يموت

mainThumb

07-07-2025 02:59 PM

printIcon
أخبار اليوم - في رحيل الكبار، لا نرثي الأجساد بل نرثي زمنًا من الفكر، وعهدًا من النُبل، وجيلًا كاملًا كانت تنبض في قلبه شمس المعرفة، وتنكسر أمام خطاه مجازات اللغة. رحل محمد شاهين، العلّامة، النّاقد، أستاذ الأدب الإنجليزيّ في الجامعة الأردنيّة، تاركًا وراءه فراغًا في الذّاكرة الأكاديميّة العربيّة، وفراغًا أوسع في القلب. لم يكن الدّكتور شاهين مجرد أستاذ جامعيٍّ تتلمذ على يديه آلاف الطّلبة، بل كان مشروعًا حيًّا للثّقافة العابرة للغات والقارات. رجل مشى بين تشومسكي ودرويش، يتبادل مع الأوّل نظريات اللغة، ومع الثّاني رؤى القصيدة، ويستعيد مع إدوارد سعيد نقد الاستشراق لا بوصفه أطروحة أكاديمية، بل بوصفه سؤالًا أخلاقيًّا في صلب الهوية. كان يكتب وهو يستحضر حواراته مع سعيد، ويقرأ العالم بعين مثقّف عضوي، لا بعيون المترجمين المنفصلين عن التّربة. وحين كانت مكاتبه تمتلئ بأرفف المعرفة، كان قلبه يمتلئ بمحبة تلاميذه، وذاكرته بوفاء الأصدقاء. ولم يكن حديثه عن نعوم تشومسكي من باب المفاخرة الأكاديميّة، بل من باب الصّداقة التي تنعقد على أرضيّة فكر عميق واحترام متبادل. أطلعني غير مرّة على رسائل متبادلة بينه وبين تشومسكي، تلك الرّسائل التي ما تزال محفوظة في أرشيفه الشّخصيّ، والتي تشكّل كنزًا معرفيًّا نادرًا، تلتقي فيها النّظريّة اللغويّة بالتحليل الثّقافيّ، ويذوب فيها الفاصل بين الأدب واللّسانيات، بين العالم النّاقد والشّاعر القارئ. كانت تلك المراسلات شاهدًا حيًّا على مكانة شاهين العالميّة، وعلى سعة أفقه الذي يتجاوز الجغرافيا ولا يساوم على العمق. تعرّفت إليه أول مرة في منزل الصديق الدّكتور مهند مبيضين، وهناك، في ذلك المجلس العامر بالفكر والودّ، لم يكن الدّكتور شاهين مجرد ضيف، بل بدا كما لو أنّه غيمة من المسرّات والفكر. تحدّث بهدوء العارفين، وأصغى بتواضع من قرأ كثيرًا ولم يغترّ، وكان في حديثه شيء من مزيج نادر: وقار العلماء، وسخرية الشّعراء، ورقّة الآباء. ومنذ تلك اللحظة، عرفتُ أنّني أمام رجل استثنائيّ لا يُنسى. لكنّ الأكثر وجعًا من بيننا جميعًا هو مهند؛ ذاك الذي لم تجمعه به فقط الزّمالة أو الفكر أو المحبّة، بل جمعت بينهما العشرة العميقة، والإيمان المشترك بأنّ الكلمة تساوي حياة. وبعدها عرفته عن قرب، لا من على منصّات المؤتمرات ولا من صفحات الكتب، بل من مجلسه الوارف في مكتبي بمكتبة الجامعة الأردنيّة، حيث اعتاد أنْ يطرق الباب لا متكلّفًا ولا معتذرًا، بل كما يطرق العلم أبواب الرّوح: هادئًا، وراسخًا، ومبشّرًا. وكانت بيني وبينه زمالة من نوع آخر، زمالة الرّوح والعقل، إذ جمعتنا هيئة تحرير المجلّة الثّقافية الصّادرة في الجامعة الأردنيّة، والتي كان رئيسها، تلك التي كانت لسنوات وجه الجامعة الأجمل في الخارج، وعنوانها الحضاري. كان شاهين يعتني بها كما يعتني النّاقد الحقيقيّ بالقصيدة: يختار مواضيعها بدقّة المبدع، ويصوغ عناوينها بروح النّاشر المسؤول عن صورة الوطن الثّقافيّة. كان حريصًا على أن تكون المجلّة مرآة للفكر الحرّ، ونقطة التقاء بين العربيّة والعالم، وكان يدهشني دومًا بقدرته الفذّة على التقاط ما لا يُلتقط، وسبر أغوا? المقالات كما لو كان يُحرّر نصًّا من نصوصه النّقديّة. كما جمعتني به زمالة في لجنة تشكّلت بمبادرة من رئيس الجامعة آنذاك، الأستاذ الدّكتور عزمي محافظة، وعضوية الدّكتور أحمد مجدوبة، وكان هدفها السّامي تحويل بيت محمود درويش في عمّان إلى متحف دائم للشّعر، مشروع تتبناه الجامعة الأردنيّة ضمن رؤيتها الثّقافيّة الوطنيّة. وكان شاهين أكثرنا حماسة للفكرة، يرى في الشّعر لا مكانًا فقط، بل ذاكرة وهوية وانتماء. حدّثني حينها أنّ البيت لا يكفي أنْ يكون حجارة وسقفًا، بل يجب أن يُصبح بيتًا للقصيدة، مفتوحًا للأجيال، وفيه رائحة درويش وصوته وشغفه الأبديّ بالكلمات. جاءني يومًا حاملاً خمسةً وعشرين مجلدًا من «معجم البابطين لشعراء العربيّة في القرنين التّاسع عشر والعشرين»، تلك الموسوعة المرجعيّة الكبرى التي تختزن نبض القصيدة العربيّة في تحوّلاتها الحداثيّة والنّهضويّة، وقال ببساطة الكبار الذين يُخفون الكرم في طيّات التّواضع: «هذه لك... فالعلم لا يُهدى إلا لمن يصونه.» لم يُهدني كتبًا تُصفّ على الرّفوف، بل عهدًا من الثّقة، وإرثًا من المعنى، يُودَع بين يديّ من يراه أهلًا لحمل ذلك. وثق بي، وأنا ولم أكن يومها إلا تلميذًا في محراب معرفته، شعرت أنّ الكلمات، لأول مرة، تتهيّب لحظة العطاء حين تأتي من يدٍ يُشبه امتدادها سلالة النُبل. لم يكن بيني وبينه غير ما بين اللغة وأختها، أو بين القصيدة وظلالها. كان إذا كتب عن محمود درويش —وما أكثر ما كتب— يرسل إليّ النّص قبل أنْ يذهب به إلى الطّباعة النّهائيّة، يستأنس برأيي كأنّني شريك لا قارئ، وكأنّ صوته لا يكتمل إلا بصدًى في ضميري. وحين تولّيت إدارة مركز اللّغات، جاءني الدّكتور شاهين مباركًا بمعيّة الأستاذ الكبير الدّكتور عيد الدّحيّات، ذلك العالم الذي كتب عن «ميلتون» كما لو أنّه ينهل من ينابيع الشّوبك الصّافية. لم يكن اللقاء لقاء عابرين، بل كان موصولًا بشبكة ضوء ممتدّة من كامبردج إلى الجبيهة، ومن شعر الفردوس المفقود إلى كزهر اللوز أو أبعد. لقد عاش شاهين كما يعيش من لا يفاوض على القيم: كريمًا في علمه، حنونًا في صداقته، ثابتًا في انحيازه للمعنى. كان رجلًا يكتب عن درويش كما لو أنّه يقرأ في ليله عن خسارات الأمّة، ويشرح الشّعر الإنجليزيّ كما لو أنّه يترجم ألم هذا الشّرق إلى لغة الأرض. لم تكن الكلمات يومًا قادرة على أنْ تُلبّي نداء الغياب، ولكنّنا نحاول بالكلمات التي أحببت، والكتب التي قرأت، والأحلام التي أسهمت في زرعها بيننا أن نرسم لك مكانك في ذاكرة لا تموت. سلامًا عليك، أيّها الحكيم، يا من أعطيتنا من وقتك، ومن قلبك، ومن علمك، ما يجعل الفقد أقسى، والذّكرى أبهى، والمكان بدونك، أهدأ وأشدّ صمتًا. نم قرير العين يا صديقي... فمن يزرع المعنى لا يموت.