أخبار اليوم - في خيمة صغيرة نُصبت على عجل وسط أرضٍ موحلة في مخيم لذوي الإعاقة بمدينة دير البلح، تجلس اعتدال شهوان (57 عامًا) تحاول أن تتلمّس تفاصيل المكان بعصاها الخشبية القديمة.
لم تكن الحياة سهلة يومًا لاعتدال، فقد وُلدت ضعيفة البصر، لكنها عاشت عمرها كله تقاوم نظرات الشفقة، تعلمت كيف تعتمد على نفسها، تزوجت، وعملت بكرامة، حتى جاءت حرب عام 2023 فقلبت حياتها رأسًا على عقب.
اعتدال، التي كانت تبصر جزئيًا وتنجز مهامها اليومية بمساعدة عصا بيضاء وهاتف ذكي مجهّز بتطبيقات خاصة للمكفوفين، فقدت 90% مما تبقى من بصرها بعد قصف منزلها في خانيونس.
لم يكن فقدان البصر وحده ما دمّر حياتها، بل فقدان كل ما يمدها بالقوة: منزلها، أدويتها، هاتفها، وحتى خصوصيتها التي كانت تحافظ عليها بشق الأنفس.
تقول وهي تحاول حبس دموعها لصحيفة "فلسطين": "كنت أعيش مستقلة.. أتنقل وحدي، أقرأ القرآن عبر الهاتف الناطق، أطبخ، وأشعر أنني مثل غيري. اليوم صرت أسيرة خطوات الآخرين.. لا أستطيع أن أمشي مترًا واحدًا دون مرافق."
رحلة نزوح مريرة
خلال 22 شهرًا من الحرب، تعرضت اعتدال لأكثر من عشرين رحلة نزوح. في كل مرة كانت تُجبر على ترك مكانها القسري لتبحث عن مأوى جديد في مدرسة مكتظة أو خيمة مهترئة.
ومع كل رحلة، كان جزء من روحها يتكسر. تصف تلك اللحظات بقولها: "أصعب ما يواجه الكفيف أن يُنتزع من مكان يعرفه إلى آخر بلا معالم. كنت أحفظ طريقي إلى الحمام والمطبخ في كل بيت أسكنه، لكن مع كل نزوح أعود طفلة تحتاج من يقودها.. حتى في أكثر الأمور خصوصية."
النزوح لم يسلبها فقط إحساس الأمان، بل جعلها تواجه مواقف مهينة يوميًا. في المخيمات المزدحمة تضطر للانتظار طويلًا لاستخدام المرافق الصحية، التي لا تراعي خصوصية النساء ولا ذوي الإعاقة.
وفي كل مرة تسقط على الأرض الموحلة أو تصطدم بأحد الأعمدة، تشعر أن الحرب لم تكتفِ بسرقة بصرها، بل سلبت كرامتها أيضًا.
صحة تتدهور بلا علاج
كانت اعتدال بحاجة مستمرة إلى فيتامينات وأدوية للعين لإبقاء بصرها مستقرًا. لكن مع الحصار ونفاد الأدوية، تدهورت حالتها بسرعة. وزاد سوء التغذية في مراكز النزوح الأمر سوءًا، إذ لم تعد تحصل على الخضروات أو الحليب، ما أدى إلى فقدان ما تبقى من نظرها.
تروي بمرارة: "أحيانًا لا أجد سوى قطعة خبز يابسة وكوب ماء. لا شيء يساعدني على مقاومة المرض. أشعر أنني أعيش في ظلام داخلي وخارجي معًا."
غياب المؤسسات التي كانت تقدم خدمات لذوي الإعاقة البصرية جعل الوضع أكثر تعقيدًا. لم يعد هناك من يوفر كتبًا بطريقة برايل، أو هواتف ناطقة، أو حتى جلسات دعم نفسي.. كل شيء توقف تحت وطأة القصف.
صورة لمعاناة جماعية
اعتدال ليست حالة فردية، بل مرآة لآلاف ذوي الإعاقة البصرية في غزة. حكايتها تعكس كيف تتحول الإعاقة من تحدٍّ يمكن التعايش معه، إلى مأساة حقيقية حين تتقاطع مع الحرب، النزوح، وغياب الخدمات.
تختم اعتدال بقولها: "لم أعد أطلب الكثير.. أريد فقط أن أشعر أنني إنسانة، أن أعيش في مكان آمن، أن أتناول دوائي، وأمشي وحدي دون أن أتخبط في العتمة."
قصة اعتدال شهوان شهادة دامغة على أن حرب غزة لا تقتل فقط من يُصابون بالقذائف، بل تقتل حياة كاملة لأولئك الذين يظلون على قيد الحياة، بينما يفقدون أعينهم وكرامتهم معًا.
فلسطين أون لاين