عائلات غزية نازحةً تعود لمدينتها: سنبقى هنا

mainThumb
عائلات غزية نازحةً تعود لمدينتها: سنبقى هنا

01-09-2025 03:19 PM

printIcon

أخبار اليوم - تحت النار، أجبرت عائلات على النزوح من مدينة غزة نحو جنوب القطاع بحثا عن ملاذ آمن، لكن سرعان ما اكتشفت أن المخاطر لا تقل ضراوة في الجنوب الذي لم يعد يحتمل المزيد من النازحين، ويعج ما تبقى من شوارعه بالخيام، وتكتظ مراكزه، والخدمات فيه شبه معدومة.

أمام هذا الواقع القاسي، قررت كثير من الأسر الغزية العودة مجددا إلى مدينتها شبه المدمرة، معلنة تمسكها بالمكان رغم استمرار القصف، ليجسدوا أن غزة، بكل ما تحمله من خطر وركام، أصبحت الخيار الأخير لهم.

في أحد الأزقة المدمرة في حي الرمال غرب مدينة غزة، تجلس أم محمد العايدي (42 عاما) أمام ركام بيتها الذي لم يتبق منه سوى جدران متشققة. تحاول أن تُشعل بعض الأخشاب للطهي، بينما يركض أطفالها الأربعة حولها بوجوه شاحبة. تقول لصحيفة "فلسطين" بصوت متعب: "عندما بدأ جيش الاحتلال بتنفيذ خطته لاحتلال غزة أجبرنا على مغادرة المدينة إلى الجنوب. مشينا ساعات طويلة تحت أصوات القصف. حملت أصغر أطفالي على ذراعي، وزوجي كان يجرّ عربة صغيرة وضعنا فيها بعض الأغطية والملابس. كنا نشعر أن الموت يلاحقنا في الطريق".

تصف العايدي رحلة النزوح بأنها كانت "أصعب من احتمال البقاء تحت القصف"، وتضيف: "الطريق كان مزدحما بآلاف العائلات. نساء يصرخن، أطفال يبكون، وجثث متناثرة على جوانب الطريق. لم نكن نعرف إن كنا سنصل أم سنُقصف قبل أن نخطو خطوة جديدة".

لكن ما إن وصلت العائلة إلى دير البلح وسط قطاع غزة حتى اصطدمت بواقع آخر. لم تجد مأوى في مراكز الإيواء التي اكتظت بالنازحين، ولا مكانًا ليفترشوا فيه أرضا في المخيمات.

يروي زوجها ياسر (45 عاما): "نمنا أول ليلة على الرصيف، وسط عشرات العائلات. لم يكن هناك ماء للشرب ولا حمامات ولا طعام. أطفالي بكوا من الجوع والعطش، وأنا لم أستطع أن أفعل لهم شيئا. حينها أدركت أن هذا ليس ملجأ، بل عذاب آخر".

بعد أسبوع من المعاناة في دير البلح، اتخذت العائلة قرارا صعبا بالعودة إلى غزة. تقول العايدي: "عدنا رغم القصف، لأننا لم نجد مكانا نعيش فيه في الجنوب. في غزة على الأقل نستطيع البقاء قرب بيتنا، حتى لو كان مدمّرا. أشعر أنني هنا أملك كرامتي أكثر من أن أظل مشرّدة في الشارع".

بالنسبة للعائلة، لم تكن العودة إلى غزة اختيارا آمنا، بل الخيار الأخير. يختتم ياسر حديثه قائلاً: "لم نعد نبحث عن الأمان، فقد فقدناه منذ زمن. ما نبحث عنه اليوم هو مكان نعيش فيه بكرامة، حتى لو كان بين الركام وتحت القصف".

"سنبقى هنا"

على أطراف حي الدرج وسط مدينة غزة، نصبت عائلة خالد عمار خيمتها الصغيرة فوق ركام منزلها الذي سوّته الغارات بالأرض. العائلة المكونة من سبعة أفراد عاشت لأسابيع في خيمة في منطقة مواصي خان يونس جنوب القطاع، قبل أن تعود إلى غزة متحدية الخطر.

يقول عمار (38 عاما) لصحيفة "فلسطين": "في مواصي خان يونس كنا ننام فوق بعضنا البعض داخل خيمة لا تتجاوز ثلاثة أمتار. لم نكن نستطيع التنفس من شدة الاكتظاظ. عشرات العائلات حولنا كانت تتشاجر يوميا على دور في استخدام الحمام المشترك أو على زجاجة ماء للشرب. شعرت أنني فقدت إنسانيتي هناك".

يضيف بحزن: "كنت أقول لنفسي: إذا كنا سنموت، فلنمُت في بيتنا، وليس في خيمة خانقة بعيدا عن أرضنا".

يؤكد عمار أن قرار العودة إلى غزة لم يكن اندفاعيا بل جاء بعد تجربة قاسية في الجنوب: "مكثنا في المواصي ثلاثة أسابيع. لم أعد أحتمل رؤية ابني الصغير ينام على أرض موحلة. هنا في غزة، حتى لو بيتنا مدمر، نحن على الأقل قريبون من جيراننا وأرضنا. أشعر أن لي مكانا، وليس مجرد رقم في طابور المياه".

بينما كان يتحدث، قاطعته ابنته مريم (12 عاما) ببراءة: "بابا، هنا أفضل. أستطيع أن ألعب بين حجارة بيتنا. في المواصي لم يكن هناك مكان نلعب فيه، فقط خيمة مزدحمة".

رغم أن القصف لا يتوقف، تؤكد العائلة أن العودة إلى غزة منحتها شيئا فقدته في النزوح: الإحساس بالانتماء. يقول عمار:

"(إسرائيل) تريد أن تطردنا جنوبا ثم إلى خارج غزة. لكننا نقول لهم: سنبقى هنا. حتى لو دفنونا تحت هذا الركام، فهذا الركام هو بيتنا".

بدوره، حذّر رئيس بلدية دير البلح، نزار عياش، من أن المدينة وصلت إلى أقصى طاقتها الاستيعابية في ظل موجات النزوح المتواصلة، مؤكدًا أنه "لا توجد مساحة واحدة قادرة على استيعاب أي خيمة نزوح جديدة".

وأوضح عياش أن الساحل مكتظ بالكامل بالنازحين، بينما يشكل شرق المدينة منطقة خطرة تحت القصف المباشر، في حين تعاني البنية التحتية من انهيار واسع، ومحطة التحلية بالكاد توفر الحد الأدنى من احتياجات السكان.

وأشار إلى أن ما تعيشه دير البلح ينسحب على عموم مناطق المحافظة الوسطى، حيث تتفاقم معاناة الأهالي مع تزايد الضغط السكاني، محذرًا من أن استمرار هذا الوضع قد يقود إلى كارثة إنسانية وشيكة.

مشروع تهجير للخارج

يقول الخبير والمحلل السياسي طلال عوكل لصحيفة "فلسطين" إن (إسرائيل) تتبع منذ بداية الحرب سياسة واضحة تهدف إلى إفراغ مدينة غزة وشمالها من سكانه ودفعهم تدريجيا نحو الجنوب، تمهيدا لتنفيذ مشروع تهجير أكبر نحو الخارج.

ويوضح: "(إسرائيل) لم تكتفِ بالقصف والدمار، بل استعملت الحرب النفسية والتجويع وقطع الخدمات لتجعل الحياة في غزة مستحيلة. الهدف هو أن يهرب الناس من تلقاء أنفسهم إلى الجنوب، ثم يتم دفعهم لاحقًا خارج حدود القطاع، سواء إلى سيناء أو أي مكان آخر".

ويضيف عوكل أن هذه السياسة لم تحقق النتائج الكاملة التي راهنت عليها (إسرائيل)، إذ إن جزءا كبيرا من السكان، وبعد أن عاشوا جحيم النزوح في الجنوب، عادوا مجددا إلى مدينتهم المدمّرة رغم المخاطر. ويعلّق على ذلك بالقول: "ما نشهده اليوم هو مفارقة لافتة، (إسرائيل) تريد أن تحوّل غزة إلى منطقة طاردة، لكن إصرار الناس على العودة حتى إلى بيوتهم المهدمة يثبت أن جذور الفلسطينيين في أرضهم أعمق من كل محاولات الاقتلاع".

ويؤكد أن العودة من الجنوب إلى غزة ليست مجرّد حركة عاطفية، بل تعكس إدراكا عميقا لدى الفلسطيني بأن أي نزوح متكرر يقربه خطوة من التهجير النهائي خارج القطاع.

يقول: "الفلسطيني يدرك أن خروجه من غزة، ولو لمرة واحدة، قد يكون بلا عودة. لذلك نرى هذا التمسك اليائس بالمدينة، حتى لو كان الثمن العيش بين الركام أو تحت القصف".

ويختم عوكل بالقول: "هذه العودة تمثل رسالة سياسية قوية: (إسرائيل) تستطيع أن تدمّر البيوت، لكنها لن تستطيع أن تقتلع الناس من أرضهم. الفلسطيني يفضّل الموت في مدينته على أن يصبح لاجئًا جديدًا في مكان مجهول".


 فلسطين أون لاين