الخطاب الإعلامي الإسرائيلي .. اعتراف بالمنبوذية

mainThumb
الخطاب الإعلامي الإسرائيلي..اعتراف بالمنبوذية

16-09-2025 12:28 PM

printIcon

د.هديل شقير/دكتوراة في الإعلام السياسي
رئيسة قسم الإذاعة والتلفزيون/كلية الإعلام – جامعة بترا

من يتابع الإعلام الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر يكتشف أنّ الشاشة لم تعد نافذة لتصدير القوة، بل مرآة تعكس انكسارات الداخل وصراعاته الخفية. في البرامج السياسية التي تملأ ساعات البث، يتبدّى خطاب مرتبك، وأكاديميون وخبراء يكررون بوعي أو من دون وعي أنّ دولتهم باتت على هامش المشهد الدولي، وأن العزلة صارت واقعاً أكثر من كونها تهديداً.

منذ اندلاع الحرب على غزة، أصبحت متابعة البرامج السياسية الإسرائيلية طقساً يومياً بالنسبة لي. ليست المتابعة بدافع الفضول فحسب، بل كقراءة معمّقة في خطاب العدو ونفسيته. متابعة البرامج السياسية الإسرائيلية على التلفزيون، تحليل نقاشاتهم، كيف يستدعون الأكاديميين والخبراء، كيف يختارون الضيوف، كيف يُدار النقاش داخليا. المتعة الحقيقية تكمن في تفكيك هذه الحوارات، في فهم القلق الكامن وراء الكلمات، وفي لحظة الطمأنينة التي أشعر بها حين أرى خصمي يتحدث بلسانٍ مرتبك، يعترف ضمنياً بانهزامه، ويصف دولته بأنها "منبوذة" في الأكاديمية والرياضة والسياسة.

في مقالات وتحليلات منشورة في الصحافة العبرية نفسها، يظهر هذا الاعتراف بوضوح. صحيفة هآرتس مثلاً نشرت تقارير تفيد بأن الجامعات الإسرائيلية تواجه مئات الدعوات للمقاطعة من مؤسسات أكاديمية عالمية بعد حرب غزة، وهو ما يضع مكانة إسرائيل العلمية على المحك. كذلك حذّر معهد الدراسات الأمنية الإسرائيلية (INSS) من أنّ إسرائيل تسير في طريق خطير نحو عزلة دولية متنامية، حيث تراجع الدعم التقليدي وتزايدت الانتقادات في المحافل السياسية والاقتصادية. من متابعة البرامج السياسية في القنوات الإسرائيلية ترى الضيوف الأكاديميون، خبراء أمن، سياسيون، يبتعدون عن الخطاب التفاؤلي المفرط، ويصرّون على التحديات: كيف فقدت إسرائيل بعض الحلفاء التقليديين، كيف بات الإعلام الدولي يرى جرائم حرب، كيف تدين المؤسسات الإنسانية والمحافل الدولية إسرائيل أكثر؟ مع ضغط على الحكومة لتبرير نفسها دائما. تظهر نقاشات صاخبة حول الأخطاء الاستراتيجية: الأمس مفاجأة ٧ أكتوبر، اليوم الاستعدادات، الاستخبارات، القيادة، الأخطاء في التقدير السياسي والعسكري، الصعوبة في ترجمة النصر العسكري إلى مكاسب سياسية أو أخلاقية، بل العكس: الخسائر في الرأي العام، في السمعة، في التحالفات. تسمعُ الاعتراف الضمني في بعض النقاشات: "لقد خسرنا في المعركة الإعلامية"، يُقال بصوتٍ شبه منخفض، ويقال أنّ "التبييض الأخلاقي غدا غيرَ ممكنًا كما في الماضي"، وأن "الصور، الفيديوهات، الشهادات، وسائل التواصل الاجتماعي تُعرّينا أمام العالم". هل تقول البرامج إنّ إسرائيل منبوذة؟ نعم، بعض الأسماء تقول ذلك صراحة، آخرون يشيرون إليه بلغات أكثر تحفظًا: "إسرائيل تواجه عزلة"، "الدعم يتراجع"، "الخصوم يشكّكون في شرعيتنا"، "العالم لا يصدّقنا"، "نحن تحت محكمة الرأي العام". هذه القراءة من الداخل الإسرائيلي تعكس تحوّلاً عميقاً: فالإعلام الذي كان يفاخر بسطوة السردية الصهيونية بات يُظهر دولة مثقلة بالأسئلة والانتقادات، دولة لا تستطيع أن تخفي إخفاقاتها الاستخبارية والعسكرية والسياسية. في البرامج الحوارية، يتكرر الحديث عن "خسارة المعركة الإعلامية"، وعن صورة باتت تُقدَّم للعالم لا كدولة ضحية بل كقوة معتدية، منبوذة في الرياضة، ومعزولة أكاديمياً، ومشكوك في شرعيتها على المستوى الدولي. إنّ ما أراه يومياً على الشاشة الإسرائيلية هو مشهد صراع داخلي تتكشف فيه هشاشة الخطاب، واعتراف بأن الزمن لم يعد يعمل لصالح إسرائيل كما كان.

وربما تكمن الطمأنينة في هذا الإدراك تحديداً: أن السردية التي روّج لها العدو لعقود تصدّعت من داخله، وأن العالم يتعامل معه الآن بوصفه عبئاً على الشرعية الدولية، لا استثناءً يحظى بالحصانة.