بشار عبدالمجيد المجالي
في مختلف بيئات العمل، سواءً التقليدية منها والتي كانت أقل تعرضاً لتسارع المتغيرات، أو الحديثة التي تتسابق فيها المؤسسات مع الزمن لإعادة التكيّف مع واقع سريع التحول، تبقى حقيقة واحدة ثابتة: لا توجد مؤسسة محصّنة بالكامل من الصدمات. فالتقلبات المفاجئة، والضغوط الداخلية والخارجية غير المتوقعة، تفرض نفسها على الجميع، مهما بلغ مستوى التخطيط ودقته.
ورغم أن التخطيط المحكم والممارسات الاحترافية تشكّل خط الدفاع الأول، إلا أنها لا تلغي وجود عوامل خارجة عن السيطرة قد تُلحق أضراراً بالمؤسسات، أو على الأقل تحدّ من قدرتها على تحقيق ما خُطِّط له. هنا يبرز الفرق بين إدارة تُراهن على فكرة «اللا خطأ»، وإدارة ناضجة تتبنّى مفهوم «دراسة الصمود» بوصفه نهجاً إدارياً لا يسعى إلى منع الأزمات بالكامل، بل إلى احتوائها، وتقليل آثارها، والتكيّف معها، بما يضمن استمرار المؤسسة وقدرتها على العمل تحت مختلف أشكال الضغط.
الصمود في السياق الوظيفي لا يعني تجاهل الصدمات أو التقليل من شأنها، بل يعني امتلاك قدرة واقعية على امتصاصها والتعامل معها بوعي. فالصدمات جزء أصيل من أي بيئة عمل: قرارات تُتخذ من أكثر من جهة، تغيّرات مفاجئة في الموارد، أو ارتباك يفرضه ظرف طارئ. في هذه اللحظات، يصبح توزيع الصلاحيات، وتدريب الموظفين على المرونة وتبادل الأدوار، واعتماد قنوات تواصل واضحة، عناصر أساسية تُشكّل منظومة صمود داخلية، غالباً ما تُبنى تدريجياً دون لوائح جامدة أو تعليمات مكتوبة.
جوهر هذه المنظومة أن تتصرّف الإدارة بعقلية استباقية، تُعدّ البدائل، وتُدير المخاطر، ولا تترك العمل رهينة المفاجآت. فالمؤسسات القادرة على الصمود لا تنتظر الأزمة لتفكّر، بل تُفكّر قبلها، وتتحرّك أثناءها، وتتعلم بعدها.
هذه الفكرة ليست وليدة الإدارة الحديثة فقط، بل لها جذور راسخة في التجربة الإنسانية. ففي التاريخ الإسلامي، شكّلت أحداث ما بعد غزوة أُحد نموذجاً عملياً للصمود؛ إذ لم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عند حدود العتاب، بل حوّل الحدث إلى فرصة لإعادة البناء النفسي والاجتماعي، ومراجعة أسباب التعثر، والاستعداد لمرحلة أكثر قوة وتماسكاً. لم تُمنع الأزمة من الحدوث، لكنها لم تتحول إلى عامل انهيار، بل إلى درس جماعي عزّز وحدة الصف، حتى جاء التوجيه القرآني بالمشاورة " وشاورهم في الأمر "، تأكيداً على ترسيخ الثقة والعمل الجماعي رغم قسوة التجربة.
وفي الإدارة المعاصرة، تقدّم شركة تويوتا مثالاً بارزاً على الصمود المؤسسي. فبعد كارثة تسونامي عام 2011، استطاعت الشركة تقليص آثار الصدمة بفضل اعتمادها المسبق على سلاسل توريد مرنة، وخطط بديلة جاهزة للتفعيل. الأزمة وقعت، لكن أثرها لم يتحول إلى شلل، بل إلى دافع لإعادة التموضع والعودة إلى السوق العالمية بسرعة فاقت التوقعات.
القادة الذين يتبنّون هذا النهج يدركون أن قوتهم الحقيقية لا تظهر في أوقات الاستقرار، بل عند اهتزاز الفريق وتعرّضه للاختبار. فهم يبنون ثقافة ترى في الأزمات جزءاً طبيعياً من مسار العمل، لا سبباً للتوقف أو التفكك. في المقابل، فإن القيادات التي تُفرط في السعي لتجنّب أي خطأ، وتتعامل مع الصدمات بمنطق اللوم والعقاب،بحجة السعي للتميز لعدم تعرضها لأي خطأ، تُنتج مؤسسات هشة، سريعة الانكسار، لأن بنيتها لم تُؤسَّس على الصمود، بل على وهم الاستقرار الدائم وردود الفعل المتأخرة.
في المحصلة، الصمود ليس شعاراً تجميلياً ولا مصطلحاً نظرياً، بل مؤشر واضح على مستوى النضج الإداري. هو الفارق الحقيقي بين من يقود مؤسسته بوعي نحو الاستمرار والنجاح، ومن يدفعها، دون أن يشعر، إلى التعثر وربما الفشل.