اقتراح للحكومة .. تحويل المتقاعدين إلى بيوت خبرة وطنية بدلاً من تهميشهم

mainThumb
اقتراح للحكومة.. تحويل المتقاعدين إلى بيوت خبرة وطنية بدلاً من تهميشهم

05-10-2025 11:38 AM

printIcon

سهم محمد العبادي

في كل مرة يتدفّق ذوو الخبرة على أبواب الجهاز الحكومي يمرّون بنفس السيرة: دورات وتدريب وتأهيل وصناديق استثمار مهني في شكل برامج تطويرية، يستثمر فيهم الوطن مالًا ووقتًا وموارد إلا أن النتيجة المؤلمة تتكرر عند وصولهم مرحلة التقاعد: تحويلهم إلى رقم في سجل المعاشات، وإغلاق ملفّاتهم، وإيداع خبراتهم في درج النسيان. هذه ليست مشكلة إدارية فحسب، بل إهدار استراتيجي لرأس مال بشري أنفقنا عليه طيلة سنوات عمرة المهنية.

المنطق الواضح في الدول التي حققت قفزات نوعية—وبالذات دول آسيوية مثل اليابان وكوريا، أو اقتصادات أوروبية راسخة—هو تحويل المتقاعد إلى «بيت خبرة» لا ينطفئ. هنا نواجه معضلة: لماذا نعتبر التقاعد نهاية علاقة المواطن بالدولة بدلاً من أن يكون انتقالًا إلى دور استثماري؟ لماذا نُظلم من بنينَّا على مدى عقود بتراكم المعارف والمهارات، ثم نلقي بهم عند خط النهاية كما لو أنهم عبء مالي فحسب؟

أولًا: تكلفة التكوين ليست مادية فقط. هي تراكم معرفي تقني، مهني، إداري، وعلاقات منظومية داخل الجهاز. الموظف قد قضى عشرات الساعات في دورات متخصصة، وفترات تدريب ميداني، ومهام تقود إلى حلول تشغيلية، وتراكم لخبرات قطاعية لا تُقاس بالمال. إخراج هذا المخزون من دائرة الفاعلية يعني فقدان استمرارية التعلم المؤسسي.

ثانيًا: أثر الفراغ على جودة الأداء. بدلاً من أن يستخدم النظام هذا المخزون لتسريع إدماج الكوادر الجديدة، يعيد تدوير تجربة "صفر-صفر" حيث يبدأ الوافدون الجدد رحلة طويلة للتعلّم، ترافقها هدر في الوقت والإنتاجية وارتفاع في الأخطاء الإدارية والفنية. أما لو تم توجيه المتقاعدين لتدريب وتأهيل العاملين الجدد داخل مؤسساتهم أو عبر برامج وطنية منسقة، فسنقصر منحنى التعلم ونرفع كفاءة الخدمة العامة.

ثالثًا: النموذج العملي للتشغيل. اقتراح بسيط وفعال – وهو اقتراح متداول بين كثير من الأردنيين – يتمثل في تحويل برامج التقاعد إلى عقود استشارية مرنة —بدوام جزئي أو بمبادرات تدريبية— يوقّعها المتقاعد مع الجهات المشغِلة أو عبر منصات وطنية تربط بين بيت الخبرة والقطاعين العام والخاص. هكذا نضمن انتقال المعرفة بلا تكاليف تدريبية إضافية، ونخلق سوقاً للمهارات يتم فيه الحفاظ على القيمة المضافة.

رابعًا: البعد الاجتماعي والسياسة العامة. التعامل مع المتقاعد كرقم يُقصي خبراته يخلّف شعورًا بالهدر والمرارة ويقوّي رواسب عدم الثقة بين الجمهور والمؤسسات. توفير أدوار منسقة للمتقاعدين، مثل إدماجهم في مراكز التوجيه المهني، لجان تقييم الأداء، أو وحدات نقل المعرفة في الوزارات، يحدّ من هذا التباعد ويحوّل التقاعد إلى مرحلة إنتاجية جديدة.

وخلاصة القول، وهذا اقتراح مني للحكومة، إن البلاد لا تبني مؤسسات قوية عبر تهميش خبرائها، بل عبر توظيفهم في حلقات استمرارية معرفية. دعوة عملية للحكومة: صمموا «شبكة بيت الخبرة الأردنية»؛ أجعلوا التقاعد انتقالًا لوظيفة جديدة بدوام مرن؛ قيّموا جدوى تثبيت الكفاءات بدلاً من تهميشها. بهذا نوفّر على الدولة تكاليف إعادة التدريب، ونكسب إنتاجية أسرع، ونُعيد للمتقاعدين موقعهم الطبيعي: شركاء في بناء مستقبل وطنهم، لا أرقامًا تُحفظ في دفاتر المعاشات.