صالح الشرّاب العبّادي
لم يعد العنف الجامعي في الأردن مجرّد حادثة طارئة أو شجار بين مجموعة من الطلبة؛ بل تحوّل إلى ظاهرة مجتمعية مقلقة تكشف عمق الخلل في بنية التعليم والقيم والإدارة، وتعكس صورة الوطن في مرآةٍ صغيرة اسمها “الجامعة”. فالحرم الجامعي لم يعد فقط ساحة للعلم، بل صار — في بعض الأحيان — ميدانًا تُختبر فيه هشاشة الانتماء وضعف الردع وانحسار القيم التي شكّلت أساس الدولة والمجتمع.
لقد كان يُفترض أن تكون الجامعة واحةً للفكر وفضاءً للحوار، فإذا بها تتحوّل إلى مسرحٍ للمشاجرات الجماعية التي تُبثّ على مواقع التواصل كأنها مباريات، يتفرج عليها الناس بين مصدومٍ وساخرٍ ومتحسّر.
والمؤلم في الأمر أنّ المشهد يتكرر من جامعة إلى أخرى، بنفس الأدوات ونفس التبريرات ونفس الصمت الإداري والإعلامي الذي يُغطي الجرح بدل أن يعالجه.
الحقيقة المؤلمة أنّ العنف الجامعي ليس حالة مستعصية، بل حالة مهملة. جذوره معروفة، وأسبابه واضحة، لكننا نتجنّب مواجهتها بشجاعة. فكل مرة تحدث فيها مشاجرة، تبدأ حملات التبرير والاتهام المتبادل، ونبحث عن شماعة جديدة نعلّق عليها الخطأ.
تارةً يُلقى اللوم على العشائر، وتارةً على الدراما البدوية، وأخرى على الأغنية الوطنية، وكأنّ الانتماء والعادات والتراث هي التي تزرع العنف في النفوس، لا الإهمال الإداري والتربوي والاجتماعي الذي تراكم على مدى سنوات.
لكن السؤال الحقيقي هو:
ما هي الشماعات الأخرى التي لم تُعلَّق عليها مشاكل الجامعات بعد؟
أين ذهبت المسؤولية؟
أين دور الإدارات الجامعية؟
أين الخطط الوطنية التي تزرع في الطلبة روح الانتماء بدل العصبية؟
إنّ من السهل جدًا اتهام العشائر، لأن هذا يُعفي الآخرين من المحاسبة. لكن العشائر الأردنية بريئة من هذه السلوكيات كلّ البراءة، فهي التي حمت الدولة ووقفت مع القانون منذ تأسيس الإمارة، وهي التي أنجبت العلماء والمعلمين والضباط والأطباء، ورفعت راية الوطن في كل ميدان.
العشيرة في وعي الأردني ليست مظلة للفوضى، بل سياج للقيم والكرامة. هي التي علّمت أبناءها معنى الفزعة من أجل الوطن لا ضده، والنخوة من أجل الإصلاح لا التخريب. ومن يربط العنف الجامعي باسم العشائر إنما يسيء إلى الوطن ذاته، لأن العشيرة هي نواة هذا الوطن وركيزته الأخلاقية والاجتماعية.
أما الدراما البدوية والأغنية الوطنية، فهي مرآة للهوية والانتماء لا أدوات تحريض. الدراما التي تمجد الكرامة والشهامة لا يمكن أن تُنتج عنفًا، والأغنية التي تلهب فينا حب الأرض لا يمكن أن تزرع الكراهية.
المشكلة ليست في التراث، بل في الفراغ القيمي والفكري الذي يعيشه جيل من الطلبة تُرك من دون توجيه حقيقي، ومن دون أن يجد في الجامعة قيادة تربوية ترشده أو نموذجًا يحتذي به.
لقد غابت القدوة، وضعف الخطاب التربوي والإعلامي، وتراجع الدور الأسري والمجتمعي في متابعة الأبناء، فصار بعض الشباب يعيش حالة من الاغتراب الداخلي، لا يجد فيها معنى واضحًا للانتماء أو طريقًا لتصريف غضبه إلا بالعنف.
وإلى جانب ذلك، هناك خلل إداري واضح في بعض الجامعات: غياب الحزم في تطبيق الأنظمة، التردد في فرض العقوبات، المحسوبيات التي تنخر في جسد العدالة الجامعية، وضعف برامج التوعية التي تزرع الانتماء والسلوك المسؤول.
لقد أصبح بعض الطلبة يعتقدون أن بإمكانهم تجاوز القانون دون عواقب، وأن المشاجرة يمكن تسويتها “عرفيًا” أو بـ “واسطة”، مما أفقد الأنظمة الجامعية هيبتها وأفرغ الردع من مضمونه.
أما من الناحية الاجتماعية، فإن التحولات الاقتصادية وضغوط البطالة والفقر خلقت واقعًا نفسيًا هشًا لدى كثير من الشباب، الذين يدخلون الجامعة وهم يحملون همّ المستقبل بدل شغف العلم. هؤلاء يشعرون أن الجامعة لم تعد بوابة أمل، بل محطة انتظار. ومع غياب الإرشاد النفسي والاجتماعي، يتحول الإحباط إلى عنف، والغضب إلى سلوك غير محسوب.
ومن هنا، لا بد من الاعتراف أن العنف الجامعي هو عرضٌ لمرضٍ أكبر: أزمة القيم والتعليم. نحن أمام جيلٍ يعيش بين نظام تعليمي جامد، ومجتمعٍ متحوّل، وإعلامٍ سطحي لا يمنحه أدوات الوعي الكافي. النتيجة هي فجوةٌ بين الشاب ومؤسسته، بين الطالب ودولته، بين الانتماء الحقيقي والانتماء الشكلي.
العلاج لا يمكن أن يكون أمنيًا فقط، بل يجب أن يكون قيميًا وفكريًا وتربويًا.
ينبغي إعادة صياغة مفهوم الانتماء الجامعي من خلال برامج جادة تُدرّس الطلبة معنى “الجامعة” كمؤسسة وطنية تُعنى بالفكر والمسؤولية.
كما يجب إنشاء مراكز إرشاد طلابي فاعلة تضم مختصين في علم النفس والاجتماع، لمساعدة الطلبة على إدارة الضغوط والتعبير عن أنفسهم بطرقٍ حضارية وبنّاءة.
ولعلّ من الضروري أيضًا إحياء فكرة “ميثاق الشرف الطلابي” الذي يوقّعه الطلبة التزامًا بقيم الجامعة وأخلاق الحوار.
لكن هذه الخطوات لن تنجح دون ردعٍ عادل وسريع، يعيد للأنظمة هيبتها، ويؤكد أن القانون فوق الجميع دون استثناء. الردع لا يعني القسوة، بل العدالة. العدالة التي تُعيد التوازن بين الحرية والمسؤولية، وبين الحقوق والواجبات.
العنف الجامعي إذًا ليس مشكلة جامعات فقط، بل قضية وطنية شاملة تتقاطع فيها التربية والتعليم والإدارة والإعلام والمجتمع.
حين نعزز قيم العدالة والانتماء، وحين يشعر الشاب أن القانون يحميه وأن الجامعة تحترمه، ستزدهر بيئة العلم، وسينكسر حاجز العنف تلقائيًا.
وختامًا،
أيها الطلبة الأعزاء… أنتم أمل هذا الوطن وسنامه، وأنتم من تُعقد عليكم آمال النهضة والتغيير. الجامعة ليست ساحة نزاع، بل مساحة للعقل والحوار. اختلافكم مصدر غنى لا سبب للعداء.
تعلموا أن الحوار قوة، وأن الكلمة سلاح أرقى من الحجر والعصا.
كونوا أبناء وطنٍ يواجه التحديات بالعقل لا بالعنف، وبالوعي لا بالانفعال.
فالعنف يُطفئ المستقبل، أمّا الحوار فيُشعل نور الحضارة.