لا توجد موازنة في العالم يشكل بند الرواتب فيها ثلثي حجمها، باستثناء الأردن، ومع ذلك، ما زال البعض يطالب برفع رواتب الموظفين الحكوميين، فهل يعقل هذا؟ أم أننا ما زلنا نتقوقع تحت مظلة "الشعبويات" المنفصلة عن الاقتصاد ولغة الأرقام والواقع؟ وهل تحتاج الحكومة فعلا إلى كل هذا العدد من الموظفين؟.
أجزم أن الحكومة تستطيع الاستغناء عن 40 - 45% من موظفيها دون أن يتأثر أداؤها الخدمي قيد أنملة، إذ إن البطالة المقنعة في القطاع الحكومي بلغت مستويات مرتفعة تغطّى تحت عباءة "الواجب الاجتماعي للدولة ، لكن الحقيقة، أن هذا الملف يشكل عبئاً مالياً الموازنة ديونا ستدفع ثمنها الأجيال المقبلة، لأننا ما زلنا نخلط بين الاقتصاد والشعبويات، وهما عالمان لا يلتقيان أبدا.
أنا شخصيا أحزن على وزير المالية وعلى الحكومة عند إعداد الموازنة، فالموازنة العامة مستنزفة قبل أن تبدأ أصلا، ولا أدري كيف يمكنهم التوفيق بين تلبية "التزامات الرواتب" للعاملين والمتقاعدين،بين متطلبات الخدمات والمشاريع ومواجهة التحديات المتزايدة يوما بعد يوم. ومع ذلك، يخرج من يطالب بزيادة الرواتب، وكأن المطلوب إرضاء الجميع دون حساب للنتائج.
المثل العربي يقول: "اللي ما بشوف من الغربال أعمى"، لذلك أرجو من المطالبين بزيادة الرواتب أن ينظروا إلى الواقع المالي والاقتصادي للبلاد، ففي الوقت الذي ينتقدون فيه ارتفاع المديونية، يسعون دون قصد إلى مضاعفتها على حساب المشاريع التنموية الكبرى التي تكافح الحكومة لإنجازها، منها مشاريع حيوية تعنى برفع معدلات النمو وتشغيل العاطلين عن العمل، والأهم من ذلك المشاريع التي تمس استمرار الحياة نفسها، مثل مشروع "الناقل الوطني".
من هنا، أدعو الحكومة إلى تحمّل مسؤوليتها ومصارحة الجميع بالحقيقة، فنحن لسنا دولة نفطية، ولا غازية، ولا حتى اقتصادا ضخما، ولم يتغير علينا شيء سوى أننا خرجنا من أصعب ثلاث أزمات اقتصادية عرفتها المملكة منذ تأسيسها لذلك، يجب أن يعلم الجميع أن تحميل الموازنة أي مبلغ إضافي يعني ببساطة ديونا جديدة سندفع ثمنها غاليا.
خلاصة القول أتفهم المطالبات، وأقر بأنها حق مشروع، لكن تنفيذها في ظل هذا الواقع المالي مستحيل ومضر، ففي علم الاقتصاد لا مجال للمجاملات ولا للشعبويات، وإذا التقيا تحدث الكارثة عاجلا أم آجلا، ويكون إصلاحها باهض الثمن يدفع ثمنه الجميع ، لذلك فلنكن واقعيين، ولنمنح الحكومة فرصة تنفيذ مشاريعها التنموية، ولنجعل المطالبات مؤجلة إلى وقت تكون فيه "الدنيا قمره ربيع".