د. ميرفت مهيرات
تتجه الأنظار إلى مشروع قانون الإدارة المحلية الجديد في الأردن، و تتجدد الأسئلة القديمة حول اللامركزية وتمكين المحافظات: هل نحن مقبلون على إصلاح إداري حقيقي ينقل السلطة من المركز إلى الأطراف، أم أننا أمام نسخة مكرّرة من وعود سابقة غيّرت شكل الإدارة دون أن تمسّ جوهرها؟
في السنوات الأخيرة، عاد النقاش حول قانون الإدارة المحلية إلى الواجهة وكأنه مرآة تعكس رغبة الدولة في التحديث، وقلق الشارع من تكرار التجارب السابقة فكرة اللامركزية ليست غريبة عن الأردنيين، فقد رُوّج لها منذ سنوات طويلة كطريقٍ لتوزيع التنمية والقرار، وكوسيلة لتمكين المواطن في المحافظات من المشاركة في صنع مستقبل منطقته؛ و لكن بين ما كُتب في القوانين وما جرى في الواقع، ظهرت فجوة كبيرة لا يمكن تجاهلها.
عندما أُطلقت تجربة اللامركزية عام 2017، استبشر الناس خيرًا. مجالس محافظات منتخبة، ووعود بصلاحيات تخطيط وتنفيذ ومراقبة، ووعود بموازنات مستقلة، غير أن التجربة سرعان ما اصطدمت بواقع شديد المركزية، حيث بقيت القرارات الكبرى حبيسة مكاتب العاصمة، وظلّت المجالس المحلية تنتظر موافقات الوزارات قبل أن تحرّك مشروعًا واحدًا.
بعض الدراسات التي تناولت التجربة في إربد ومأدبا والكرك أشارت بوضوح إلى أن المجالس لم تكن تملك الأدوات التنفيذية ولا الموارد المالية الكافية، وأن كثيرًا من أعضائها افتقروا للتدريب والدعم المؤسسي.
القانون الجديد يأتي اليوم ليعيد الأمل بأن الدولة جادة في تصحيح المسار و الحكومة أعلنت نيتها مراجعة التشريعات لتوسيع صلاحيات المجالس المحلية ومنحها استقلالًا ماليًا وإداريًا أوسع، مع تحسين آليات المساءلة والشفافية على الورق، يبدو الأمر واعدًا؛ لكن ما يخشاه الناس أن تبقى التغييرات شكلية، تُجمّل الصورة من الخارج بينما تظل السلطة الفعلية في المركز؛ فالمسألة لا تتعلق بعدد المجالس أو مقاعدها، بل بقدرتها الحقيقية على اتخاذ القرار، وتنفيذ المشاريع، وتحمّل المسؤولية أمام المواطن.
ما يحتاجه الأردن اليوم ليس فقط قانونًا جديدًا، بل عقلية جديدة في الإدارة. لا بد من نقل الصلاحيات المالية والقرارية فعليًا إلى المحافظات، وتأسيس نظام رقابي محلي شفاف يضمن المساءلة دون بيروقراطية معطّلة كما أن بناء قدرات الكوادر المحلية وتدريبها على الإدارة الحديثة ليس ترفًا، بل شرط أساسي لإنجاح أي تجربة لامركزية.
ورغم الانتقادات، هناك مؤشرات تدعو للتفاؤل فالنقاش العام حول القانون بات أوسع وأكثر جدّية، والوعي الشعبي بأهمية اللامركزية ازداد نضجًا و كثيرون باتوا يدركون أن التنمية المتوازنة لا يمكن أن تأتي من قرارات فوقية تصدر من عمّان، بل من مشاركة فعلية لأبناء المحافظات أنفسهم. إذا استوعب القانون الجديد هذه الفكرة، فسيكون خطوة مهمة نحو بناء إدارة محلية فاعلة وشراكة حقيقية بين المواطن والدولة.
لكن الخطر قائم دائمًا: إن بقيت النصوص جميلة والتنفيذ ضعيفًا، فستتحول اللامركزية مرة أخرى إلى شعار يزيّن الخطب دون أثر على الأرض. المطلوب هو أن تمتلك الدولة الإرادة لتطبيق ما تشرّعه، وأن يتحمّل المواطن مسؤوليته في المراقبة والمشاركة.
القانون الجديد قد يكون نقطة تحوّل في الإدارة الأردنية، أو قد يكون مجرد محطة عابرة في مسار طويل من الإصلاح المؤجل. ما سيصنع الفارق ليس النصّ نفسه، بل من يطبّقه وكيف ينفذ فاللامركزية ليست ديكورًا إداريًا، بل ثقافة حكم جديدة تؤمن بأن الوطن لا يُدار من مركز واحد، بل من جميع أطرافه.