بقلم: الدكتور أجمل الطويقات
في الموروث الشعبي الأردني قول مشهور يشير إلى أن "الحجيز له ثلثين المشكلة".
ويقصد به ذاك الذي يهرعُ بين المتخاصمين ظنًّا منه أنه سيُصلح ذات البين، فإذا به يُوسّع رقعة الخلاف، ويحوّل الشجار من كلماتٍ متطايرةٍ إلى أيدٍ متشابكة، ومن نزاعٍ بسيطٍ إلى حكايةٍ تُروى في الدواوين لأجيالٍ طويلة.
ولعل أجمل ما في هذا المثل أنه لا يتحدث عن «الخصمين» بقدر ما يكشف مأزق «المتدخّل» الذي لا يعرف كيف ولا متى ولا أين يتدخّل!
وما جرى بعد تصريحات رئيس مجلس النواب الأردني مازن القاضي لا يبتعد كثيرًا عن هذا المثل.
فالرجل قال ما قال في ظل أزمة ثقة بين الحكومات والشارع الأردني منذ مدة، ومرّ حديثه في مجراه الطبيعي، إلى أن خرج علينا جيشٌ من «الحجّازين»؛ كلٌّ يريد أن يشرح، ويؤوّل، ويبرّر، ويُلبس الكلمة لباسًا من حريرٍ، وهي لم تحتج إلا إلى قميصٍ قطنيٍّ خفيف!
فبدل أن تهدأ الساحة، اشتعلت. وبدل أن يخفّ الاحتقان، تكاثفت التحليلات والتفسيرات والمقالات، حتى صار التصريح الأول كفقاعةٍ صغيرةٍ وسط بحرٍ من الرغوة الإعلامية.
لقد أراد البعض أن يُطفئوا النار، فسكبوا عليها الزيت، ظانّين أنه ماءُ الفهم!
يا سادة، ليست كل نوايا الإصلاح تصلح للإصلاح، ولا كل من يرفع شعار «التوضيح» يُحسن التوضيح.
فالكلمة، حين تخرج من فم قائلها، تشبه الطائر في الفضاء: إن حاولتَ الإمساك به بالقوة، كسرتَ جناحه.
وكذلك التصريحات السياسية، ما إن يكثر حولها المبرّرون والمفسّرون، حتى تفقد غايتها وتتهاوى أمام عيون الناس.
ما قاله الرئيس القاضي لم يكن بحاجة إلى هذه الجيوش الإلكترونية من الكتّاب والمحللين، الذين ظنّ كلٌّ منهم أنه الحاجز الحكيم، فإذا به يتحول إلى طرفٍ ثالثٍ في معركةٍ لم تبدأ بعد!
لقد حمّلوا الرجل أكثر مما قال، وجعلوا من تصريحه البسيط خطبةً في السياسة، ومن عباراته المختصرة بيانًا فلسفيًا بحاجةٍ إلى شروحٍ وتفاسير.
إن بعض الدفاع أسوأ من الهجوم، وبعض التوضيح أشدّ التباسًا من الغموض.
وقديمًا قالوا: من كَثُر كلامه كَثُر خطؤه، لكن يبدو أن البعض لا يقرأ الأمثال إلا بالمقلوب، فيظن أن كثرة الكلام دليلٌ على عمق الفهم!
لعل هذا المشهد يذكّرنا أن في السياسة كما في الحياة: الصمتُ حكمة، والاقتصاد في التبرير فضيلة، لأن «الحجيز له ثلثين المشكلة»... وربما الثلاثة كاملة!*